لا يجوز، كما أرى أن ننظر إلى الواقع السوري الجديد وكأنّه قد رسا واستقرّ على وُجهة لا عودة عنها إلّا من زاويتين:
الأولى، هي تلك الزاوية التي تتعلّق بنهاية النظام السابق نهايةً ليس لها أيّ حظوظ في العودة إلى مواقع مؤثّرة مهما كان مصير النظام الجديد.
والثانية، أنّ الشعب السوري الشقيق، وقد بدأ يتنفّس الحرّية ــ بصرف النظر عن كلّ الآراء حول هويّة الذين أتوا بها ــ لن يعود إلى نظام دكتاتوري جديد راغباً أو مُكرهاً، وهو لن يقبل أن تتحوّل القيادات الجديدة إلى دكتاتورية مقنّعة تحت أيّ غطاءٍ، بما فيها الغطاء الديني أو الطائفي أو المذهبي، إلّا إذا أنتجت الحالة السياسية مثل هذه الدكتاتورية عَبر صناديق الاقتراع، أو من خلال فرض مثلها بالقوة الجبرية في المراحل القريبة القادمة لأسباب تتعلّق بالتهديدات التي قد تواجهها هذه القيادات.
وبقدر ما أنّ المزاج الشعبي السوري يكاد يكون كاسحاً نحو حلول ديمقراطية لقضايا نظام الحكم، ولقضية الدستور تحديداً، إلّا أنّ التهديدات ما زالت كبيرة وقائمة.
وهذا المزاج العام الكاسح سيصطدم على ما يبدو مع جملةٍ من الصعوبات التالية:
1) الانضواء تحت مظلّة "جيش وطني موحّد" مسألة مرفوضة من قبل أكراد سورية، ويبدو أنّهم لن يقبلوا بأقلّ من الاحتفاظ بـ "قواتهم الخاصة" المستقلة عن مثل هذا الجيش، أُسوةً بالأكراد في العراق.
كما أنّ الفصائل من خارج القبضة المباشرة لـ"هيئة تحرير الشام"، والتي تسيطر على إدلب حتى الآن، ولها تواجد وازن في حلب وحماة، وبعض المناطق الأخرى لا ترى في "الاندماج" إلّا "مصيدة" قد تفقدهم دورهم المستقبلي في الحياة السياسية السورية لاحقاً.
كما ترى هذه الفصائل أنّ تمترس الأكراد حول "القوات الخاصة" بهم، إضافةً إلى "الموارد المستقلّة" سينتهي بالأمور إلى الصدام المؤكّد، وربّما سيسرّع في عملية تمزّقات جغرافية أخرى قد تمتدّ لكي تأخذ الطابع المذهبي والطائفي بأبشع أشكاله.
2) وبما أنّ تركيا لن تتمكّن من التعايش مطوّلاً مع "الدويلة الكردية" التي يجري استحداثها على نارٍ هادئة، بدعمٍ من أميركا، وأنّ الأخيرة لن تتخلّى عنها لأنّها ركيزتها الأساسية للبقاء في سورية، وخصوصاً إذا تمّ انسحاب قواتها من العراق حسب الموعد المقرّر في النصف الثاني من العام 2025، فإنّ الصدام بين الإستراتيجية الأميركية، والمصالح التركية المباشرة يصبح حتمياً.
هنا يُتوقّع أن يؤدّي هذا الصدام إلى عدّة أزمات مباشرة، كلّ أزمة منها أكبر من الأخرى.
ستطير إمكانية رفع "تحرير الشام" عن لائحة الإرهاب، ولن تحصل القيادة الجديدة على الدعم المالي العاجل بصورةٍ خاصة، وفي أسرع وقتٍ ممكن في ضوء تدهور الحالة المعيشية في عموم البلاد، وقد تتدخّل القوات الأميركية، ويتمّ تعزيزها لصالح ميليشيات "قسد" التي يغلب عليها الطابع الكردي، وقد يمتدّ الصدام إلى مناطق واسعة، وهي ستكون سانحة جدّاً لدخول "داعش" على كلّ الخطوط، وستخلط كلّ الأوراق في كلّ المحافظات الشمالية الغربية والشرقية كذلك.
3) كلّ سوري وسورية ينتمي/ تنتمي إلى الاتجاهات الوطنية الديمقراطية، أو الليبرالية سيجد نفسه أمام دستور إمّا دستور "الشريعة"، أو أخفّ قليلاً من حيث الصياغات، أو دستور محوّر كما هو حال التحوّر القائم في الفصائل الإسلامية الذي يجري بصورة هزلية مفبركة "هويّات جديدة" لها من الزاوية الإعلامية، من دون أيّ أساس فكري أو ثقافي أو حتى سياسي لهذا التحوّر.
ناهيكم طبعاً عن التحدّيات التي تمثّلها الأطماع الصهيونية، والإحراج الذي لا تراعيه دولة الاحتلال لكلّ هذه الفصائل، بل ولكلّ وطني وديمقراطي سوري، بصرف النظر عن حالة "الهيجان" الانفعالي المفهومة تماماً بعد التخلّص من استبداد النظام القديم.
صحيح أنّ إعلام قطر وتركيا، والأبواق "الإبراهيمية" عموماً حوّلت الموضوع إلى "فُرجة" إعلامية، وصحيح أنّ رواجها يكاد يكون هو المظهر الأساس، لكن مسألة الفكرة والسَّكرة تقترب بسرعة أكبر من المتوقّع.
على كلّ حال أوردنا كلّ هذا الإسهاب في قراءة الحالة السورية بهدف أن نستنتج ثلاث قضايا رئيسية:
أولاً: لن يكون هناك تغيّر أو استقرار في "الوُجهة" السورية قبل عدّة شهور، وقد تمتدّ الأمور إلى عامٍ أو عامٍ ونصف العام من الآن.
ثانياً: في هذه الفترة الانتقالية ستدخل وتتبلور "الخطّة الترامبية"، والعامل الإسرائيلي، والنظام العربي.
ثالثاً: خلال هذه الفترة الانتقالية ستتغيّر خارطة التحالفات الداخلية السورية، وصولاً إلى معالم قابلة للقراءة في الخارطة، والمتوقّع من دونالد ترامب فور استلامه لسدّة الحكم هو الموافقة على ضمّ الكتل الاستيطانية الكبيرة مباشرة إلى دولة الاحتلال دون قيدٍ أو شرط، وموافقة ترامب على ضمّ شريطٍ محاذ لـ"الخط الأخضر" من المنطقة "ج" التابعة لأراضي الضفة الغربية.
باقي "المناطق" لن يسمح بإقامة دولة فيها، لكنه سيطرح ــ كما أرى وأتوقّع، وكما تشير الكثير من المعطيات ــ علاقة "خاصة" بين فلسطين والأردن، "لحلّ" قضية اللاجئين الفلسطينيين تحت عنوان هذه العلاقة، ولحلّ قضية الحدود "مضمرة" في نفس الإطار، والبحث عن صيغة نابعة من جوهر هذا العنوان، وهذا الإطار لمسألة الأماكن المقدّسة في مدينة القدس.
ضمّ السكّان ليست في وارد ترامب، ولا في وارد السواد الأعظم من المجتمع الإسرائيلي، وأحلام عُتاة "اليمين" بالطرد الجماعي والضمّ ليست مسألة عملية من أيّ زاوية من الزوايا.
باختصار، بعد فكاك "حماس" عن حلفها القديم، وبعد انتقالها "موضوعياً" إلى عالم الانخراط في لعبة التسوية القادمة، لا يوجد أيّ مجال لبقاء الحالة الفلسطينية دون إعادة "لملمة" يراها النظام العربي شرطاً لانخراطه في مسار تسووي جديد قابل للوصول إلى حلول يمكن أن تنزع الفتيل من كلّ الإقليم.
ولهذا تسابق مصر الزمن للوصول إلى تفاهمات فلسطينية فلسطينية بالتزامن مع "الصفقة"، والمعلومات الشحيحة التي رشحت عن دعوات مصر الأخيرة للقيادة الفلسطينية ليست إلّا تعبيراً عن هذه التوجّهات.
ترويض "حماس" من على يمين هذا المشهد، وترويض "الجهاد الإسلامي" من على يساره يحتاج إلى إعادة "تحالف" بين "فتح" وقوى اليسار الفلسطيني، وقد نكون بسبب تداعيات الزلزال السوري أمام خارطة تحالفات جديدة في الواقع الفلسطيني.
ومع هذا كلّه علينا أن نراقب الأزمة الداخلية الإسرائيلية، والذي أراه أنّ دولة الاحتلال على أبواب انقلابات كبيرة سأُحاول أن أكتب عنها كتداعيات للحرب التي تضع أوزارها، والحرب التي ربحتها دولة الاحتلال دون أن تخوضها، وذلك في المقال القادم.
وفي حين يرى البعض أنّ دولة الاحتلال هي الرابح الوحيد، والبعض يقول بأنّها الرابح الأوحد، وأنّ العصر قد عاد ليكون عصراً إسرائيلياً، أقول لكم ومنذ الآن أنّ هذا كلّه هو أبعد عن الحقيقة من أيّ شيءٍ آخر.