شكّل سقوط نظام "البعث" في سورية، فرصة للمبشّرين ببداية تحوّل الشرق الأوسط، نحو آخر جديد، يصفه الكثيرون على أنه "سايكس ــ بيكو" نسخة القرن الـحادي والعشرين.
مخطّط "الشرق الأوسط الجديد"، بقي طيّ الأدراج لفترةٍ طويلة تعود إلى حقبة "الحرب الباردة"، إلى أن وضعتها الإدارة الأميركية "الجمهورية"، خلال فترة رئاسة جورج بوش الابن، التي أعلنت عَبر وزيرة خارجيتها كوندوليزا رايس، عن البدء بتشغيل ذلك المخطّط.
البدايات الفعلية ظهرت مع ما يُعرف بـ"الربيع العربي"، نهايات العام 2010، ولكنها تعطّلت في محطّتها المصرية، التي كانت في قلب الاستهداف حين منعت الثورة من تقسيم الدولة، ولكنها نجحت نسبياً في دول أخرى لم تشهد تقسيماً فعلياً معلناً، بقدر ما أنها أسّست لنجاح لاحق، من خلال إضعاف تلك الدول، وزرع كل أنواع التناقضات والصراعات، القبلية، والطائفية والعنصرية، ونشر الفساد على نطاقات واسعة.
وخلال هذه السنوات، غابت الأحزاب القومية والوطنية عن الحضور والفعل، وتركت المساحات لملئها بمعارضات مسلّحة متضاربة وتحرّكها في الأغلب قوى خارجية إقليمية ودولية.
لتغيير خارطة الشرق الأوسط، لم تكن الوسيلة المعتمدة فقط العبث بالأوضاع الداخلية للدول العربية، وضرب النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي، وتغذية النعرات الانفصالية، وإنّما شكّلت "اتفاقات أبراهام" مساراً مهماً، نحو إقامة ما يُعرف بـ"الحلف السنّي" الذي تقف على رأسه أميركا، وفي قلبه دولة الاحتلال.
"طوفان الأقصى"، بقدر ما أنّه قطع الطريق مؤقّتاً على إمكانية توسيع "اتفاقات أبراهام"، إلّا أنّه فضح على نحو لا يقبل التأويل، طبيعة المخطّطات الأميركية الإسرائيلية والغربية تجاه المنطقة من ناحية، وشكّل المبرّر، للاستعجال في تنفيذها.
لقد أصبح معروفاً للكثيرين، أنّ ما تشهده المنطقة، منذ 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، كان سيقع بذريعة أو من دونها، وأنّ تصفية القضية الفلسطينية كانت من أهمّ الأهداف.
لا يحتمل الأمر، التشكيك في هذه القضية التي لم تعد مجرّد فرضية، حين نستعيد الأهداف المعلنة الأولى التي رفعتها دولة الاحتلال وداعموها الذين تحدثوا بوضوح عن تهجير سكان قطاع غزّة إلى سيناء المصرية، والضفة الغربية إلى الأردن.
والكلّ يعرف أنّ رفض مصر لخطّة التهجير، وصمود الشعب الفلسطيني أفشلا ذلك المخطّط مبدئياً، على الرغم من حرب الإبادة الجماعية العنصرية والإجرامية، والتدمير الشامل، التي خاضتها دولة الاحتلال ضد سكان القطاع، واستنسخت من تلك الأهداف، أهدافاً فرعية، فشلت في تحقيقها حتى الآن باستثناء هدف تفكيك "محور المقاومة"، حيث تمّ إخراج "حزب الله" اللبناني من معادلة الانخراط والاشتباك، وسقط نظام الأسد، ما أدّى إلى انكفاء إيران التي بدأت تخشى على نفسها.
هذه التطوّرات التي وفّرت لدولة الاحتلال الفرصة، لاحتلال أراضٍ سورية جديدة، ووقف جيشها على قمّة جبل الشيخ، وعلى مسافة 25 كم من دمشق، ثم تدمير قدرات الجيش السوري العسكرية، من دون أدنى ردّ فعل عملي من قبل أيّ طرف عربي أو أجنبي باستثناء إصدار البيانات.
حينذاك أعلن بنيامين نتنياهو من الموقع التوسّعي الجديد الذي احتلّه جيش الاحتلال في القنيطرة السورية، أنّ فكرة "الشرق الأوسط الجديد" قد بدأت تتحقّق.
بالنسبة لدولة الاحتلال، لبنان خرج من دائرة المواجهة، وسورية كذلك، ولم تعد الأخيرة ممرّاً لتسليح "حزب الله"، وتمّ إخراج إيران كليّاً من دائرة أمنها الإستراتيجي.
ولكن لـ"طوفان الأقصى" فضيلة مهمّة، إذ إنه انتزع القضية الفلسطينية من براثن التهميش، والتصفية، لتعود قضية دولية بامتياز، باعتبارها مفتاح الحرب والسلام في الشرق الأوسط.
تأثيرات، وأبعاد ما تركته دماء الفلسطينيين وعذاباتهم في غزّة والضفة، لا يمكن محوها، مهما فعلت دولة الاحتلال وحلفاؤها، حيث اخترقت بقوّة المجتمعات "الغربية"، ووضعت حدّاً للسرديّة الإسرائيلية، ما ستظهر نتائجه في قادم السنين.
غير أنّ المخطّط التقسيمي لدول الشرق الأوسط، لا يزال في بداياته رغم ما تحقّق حتى الآن، ما ترك الكثير من الزعماء العرب يتحسّسون رؤوسهم.
ما وقع في سورية، سيشهد ارتدادات على الدول المجاورة، فيما حقّقت تركيا، إنجازاً إستراتيجياً، لا يزال مفتوحاً على المزيد من الإنجازات، التي تجعلها دولة إقليمية ذات تأثير واسع، تتقاسم من خلاله النفوذ مع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة بما في ذلك دولة الاحتلال.
كما أنّ ما وقع حتى الآن، أدّى إلى تقليص النفوذ الإيراني إلى حدّ كبير، لكن ذلك قد لا يكفي لإعلان القوى الدافعة لـ"الشرق الأوسط الجديد" إلى إعلان الانتصار الكبير.
الانتصار الكبير يعني بالنسبة لأميركا ودولة الاحتلال، قفل الطريق أمام التوسّع الصيني الروسي، الساعي للوصول إلى الشرق الأوسط، ومنه إلى إفريقيا، ومن خلال التخلّص من العقبة الإيرانية، ما إن حصل سيفتح الطريق، أيضاً، نحو معالجة أوضاع اليمن، وتأمين طرق الملاحة البحرية أمام التجارة الدولية.
الذريعة جاهزة، وهي إنهاء الملفّ النووي الإيراني، هذا الهدف الذي إن تحقّق سيحظى بموافقة وراحة لدول الخليج والعربية السعودية، التي ستتخلّص من خطر التهديدات الإيرانية، بأيادٍ غير عربية.
ترامب متحمّس لذلك، ووجوده في البيت الأبيض يشكّل الفرصة السانحة لدولة الاحتلال التي لا تتوقف عن التحضير للقيام بمهمّة قصف المنشآت النووية الإيرانية.
ولقد بات واضحاً للكلّ أنّ دولة الاحتلال وحدها غير قادرة على إنجاز مثل هذا الهدف، وأنّها بحاجةٍ لتنسيق العمل مع أميركا.
هدف إستراتيجي كبير، حتى لو اقتضى الأمر أن تدفع دولة الاحتلال جزءاً من الثمن، أو بعض القواعد العسكرية الأميركية، لكن الأمر قد يفتح الباب واسعاً أمام اضطراب المنطقة، وربّما تأجيج الصراعات الدولية بسبب المخاطر التي تهدّد مصالح الصين وروسيا.