يلفت القاص السعودي حسين السنونة الانتباه إلى مصاف الواقع الاجتماعي الذي يعايشه المواطن العربي، بتنوع مشاكله وإخفاقاته، حيث البطالة والفقر والفراغ واللاجدوى، من خلال قصص متنوعة الصياغة والتركيب، ضمن مجموعته القصصية الثالثة ”أقنعة من لحم“، الصادرة عن دار سطور للنشر والتوزيع 2021.
ويلمح الكاتب إلى الصراعات الحزبية والانتماءات المضللة التي تنتاب المجتمعات العربية، وتؤدي إلى التقسيم والعنف والتفتت الاجتماعي، والتباعد الإنساني، حيث نجد في جوهر سرده، دعوة إلى الإنسانية الخالصة في 18 قصة امتدت على مدار 102 صفحة من القطع المتوسط.
كما تثير المجموعة الجدل حول مدى قدرة المرء تحديد أفكاره الخاصة، بما يفصله عما تلقنه من الأهل والمجتمع في طفولته، بناء يهدف إلى فتح المجال لانتقاد الموروث الاجتماعي، إن تطلب ذلك.
فيما يكتب السنونة عن المشردين في المجتمع، ويبرز المعاناة التي ترافقهم، في ظل عدم تحرك الطبقات الاجتماعية، من أجل حل إشكالياتهم.
تفكيك
وتتكلل رؤية المجموعة في التقاطع مع الحدث الواقعي، وتفكيكه، ومن ثم البناء عليه من خلال الحركة السردية المتسمة بالإيحاء؛ فالسنونة يستخدم في قصصه العديد من الأساليب والحيل السردية، من أجل إحداث الدهشة، ونقل شعور الاستغراب والفضول لدى القارئ من خلال لغة سردية نقية، لا تجاوزات شعرية داخلها، وتفتح على احتمالات تأويلية، وإسقاطات شعورية، وصفعات مدهشة، من خلال قدرة الكاتب على التوصيف.
ويشتغل القاص، من خلال ذلك، على خلخلة القناعات بجماليات النثر الممتدة إلى مساحات بعيدة في الخيال، بما تتقاطع به من أفكار مع المعرفة الإنسانية التراكمية.
عملية الربط والقطع هذه التي يقوم بها السنونة، يحققها تكنيكه في صياغة القصة، القائم على وضع نقطة، ألا وهي الحدث، ومن ثم الرسم حولها، لإكمال مجريات الصراع السردي كما يجب.
حدث غريب
في قصة ”أقنعة من لحم“، التي حملت عنوان المجموعة، يتقاطع القاص مع الوعي الإنساني برمته، حين يثير المشاعر الداخلية المتوترة خلال سرده، فنجد أنفسنا أمام حدث غريب خارج عن المعتاد، فبطل القصة يصحو على قناعة بأن وجهه تحول لوجه كلب، لكن من حوله لا يرون ذلك. وكأن الكاتب يريد اللعب في مساحة المرء الخاصة بهذه الفكرة، إذ إن قناعة الإنسان هي هويته، ومعرفته التراكمية عن ذاته والأشياء والعالم بأسره، فلا ينجو أي شخص من تعارض قناعاته مع المحيط، هذا الاختلاف هوّة تقبع في الداخل، ومثار انفصال عن المحيط بشكل أو بآخر.
إن تقنية التغريب السردي التي اتبعها السنونة، جعلت من السرد أكثر رؤيوية وتعمقًا، والفكرة رغم بساطتها، إلا أنها حملت مشاعر متضاربة حول الحدث الآتي، وأثارت الفضول للمزيد حول الحدث، وتكون النهاية بنفس القيمة من المراوغة، حينما يعكس الكاتب القناعات كلها، ويمحو أثر ما كتب، كأنما أراد تحرك ماء راكد لا أكثر، ثم مضى.
من أجواء القصة:
”رجع البيت وهو أسير التفكير، خائف النظرات من كل جانب، وبالخصوص عندما يقف عند إشارة المرور، يعتقد أن الجميع ينظر له، وعندما يرى أطفال يبتسمون مع أهلهم داخل السيارة يعتقد أنه هو المقصود خاصة إذا رفع أحد الأطفال يده ملوّحا وضاحكا، وصل البيت وقرر أن يكون السرير هو الهدف دون عشاء أو جلوس مع العائلة كالعادة“.
حفرة
وفي مشهد مونولوجي لقصة ”صرخة طينية“ يكشف الكاتب عن صراع الإنسان مع ذاته، حول الرتابة التي يعيشها، وضغوطات العمل، وروتينية الحياة، فرجل يتجه نحو الستين من عمره، يجد نفسه أمام واقعه المحاط بمتطلبات الأسرة وفواتير الكهرباء ومصاريف الجامعة للأولاد، يذهب نحو منطقة نائية ليحفر حفرة لصراخه، تلك حيلته التي استطاع أن يخلص نفسه بها، من الضغوطات الهائلة، ليعود متعافيا، لكن بعد فترة يعود له نفس الشعور بالخيبة والخذلان، وحين يقصد المكان ذاته ليصرخ، يجد الأرض قد أحيطت بالسياج، ويمنع الاقتراب منها، بسبب تبعيتها لمسؤول في الدولة.
في هذه القصة نجد إسقاطات شعورية من قبل الكاتب حول أزمة الإنسان المعاصر والواقع، تمثلها رتابة العمل الوظيفي ومتطلبات الحياة، وحالة الفقد الداخلية التي يعانيها المرء، جراء عدم إشباع الجانب الروحي لديه.
كما ويلمح الكاتب إلى الانفلات الأخلاقي في مجريات الأمور، من خلال التعدي من قبل المتنفذين من المسؤولين على مقدرات الشعوب، واعتبارها ملكية شخصية.
من خلال هذا السرد أراد الكاتب أن يلامس مشاعر الضجر داخل الإنسان العربي، ويثير بعدًا متعلقًا بالحرية الشخصية، والهوية الذاتية، التي يفقدها المرء في ضجيج الحياة النمطية. واستخدم السنونة الحوار الذاتي ليكشف عن منطقة مظللة عند الكثيرين.
يكتب السنونة:
”العالم مشغول بي، لا لشيء سوى أنني لا أقوى على أن أكون ما أريد أن أكون، كأنني مختلف عن الآخرين، وهذا ليس صحيحا، أريد أن أصرخ حتى يعود لي شيء من التوازن“.
نهاية مدهشة
أما في قصة ”آخرون كانوا هنا“ فيصنع حسين السنونة مفارقة غريبة، تكشف عن حرفة في الصياغة السردية، حيث يعمل على إنشاء صراع فكري ذاتي لدى القارئ من خلال طرح احتمالات متعددة أمام الوعي، في سياق معين، ومن ثم الالتفاف وتفجير الدهشة، على سياقه الخاص.
حيث يبدأ بطل القصة في توقع الشخص الذي سبقه في الجلوس على مقعده داخل المطعم، حين شعر بدفء سطح المقعد، وبينما يأخذ البطل بوضع احتمالات متعددة كالتاجر أو الرجل الذي ينوي الطلاق، أو الشاعر أو الفنان وغيرهم، ومن ثم يضع سيناريو لحياة كل شخص منهم، وأخيرًا يسأل النادل، فتكون الإجابة على غير المتوقع.
يكتب القاص:
”قررت أن أسأل ”النادل“ عمن كان يجلس على هذه الطاولة قبل قدومي:
– كانت عائلة يا سيدي، وكان لديهم هرة بيضاء، أجلسوها على الكرسي الذي تجلس عليه أنت الآن!!“.
"إرم"