دخلت الصين كل بيت في العالم دون أن تحتل شبراً واحداً من أرض دولة أخرى، بل إنها هي نفسها قد عانت حتى الحرب العالمية الثانية من الاحتلال الخارجي سواء البريطاني، الذي دفع شعبها لإدمان «الأفيون» حتى يبقى محتلاً لأرضه، أو الياباني، الذي أذاق الشعب الصيني كل أشكال الذل والهوان، والصين تعتبر بحق حالياً الدولة المناهضة فعلاً وبهدوء للنظام العالمي الفاسد والظالم الذي تقوده أميركا بروح الاستعلاء، بل وبإرث الاستعمار القديم، أو على أقل تقدير بذهنية المنتصر في الحرب الباردة.
والصين تتقدم بثبات ليس لإسقاط أميركا عن سدة عرش النظام العالمي، بل إلى تغيير ذلك النظام، الذي يفرض قانون القوة، بدلاً من قوة القانون، ويفرض قيم العطالة بدلاً من قيم العمل والكد والاجتهاد، ويفرض منطق الإتاوة ونهب خيرات وثروات وحقوق الآخرين، بالقوة العسكرية والجبروت الكوني، والأدلة على ذلك كثيرة، حيث لا يقر النظام العالمي الأميركي بالحقوق المتساوية للدول وللمواطنين من البشر، ويكفي تقديم الموقف الأميركي فيما يتعلق بإسرائيل واحتلالها لأرض دولة فلسطين، كذلك عربدتها وسطوتها، بما تتميز به من عنصرية وفاشية، لتنكشف الحقيقة الأميركية المعادية للعدالة الاجتماعية والمناهضة للمساواة بين الدول والشعوب.
أما الصين فإنها تمثل اليوم أمل أغلبية دول وشعوب العالم، في التحرر من النظام العالمي الأميركي نظراً إلى أنها تمثل نداً اقتصادياً لأميركا، كذلك فإن «الصراع» بين الصين وأميركا هو تنافس بارد، لا ينطوي على مخاطر نشوب الحرب بينهما، لا تلك الحرب المدمرة كما وقع في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولا تلك الحرب التي سميت الباردة والتي وقعت بين أميركا والاتحاد السوفييتي.
أي أن الصراع بين الصين وأميركا تنافس حر وطبيعي، والصين بحكم كونها قد خرجت من رحم العالم الثالث، الذي كانت تتزعمه خلال الحرب الباردة عبر ما سمي دول عدم الانحياز لأحد طرفي الحرب الباردة، ورغم أن كلاً من ألمانيا واليابان المهزومتين في الحرب العالمية الثانية، واللتين ما زالتا ترزحان تحت وطأة اتفاقيتي الاستسلام اللتين حرمتهما من امتلاك القوة العسكرية، لكنهما تقدمتا اقتصادياً، خلال الحرب الباردة مستفيدتين من انشغال أميركا والغرب أي بريطانيا وفرنسا، مع الاتحاد السوفييتي السابق ودول منظومته الشرقية، بتلك الحرب، إلا أنهما ربما بسبب من كونهما تتبعان نظاماً سياسياً واقتصادياً رأسمالياً غربياً، لا تعدان منافساً حقيقياً لأميركاً، لأن أميركا قادرة في أي وقت على وضع حد لقوتهما الاقتصادية، في حال شكلت تلك القوة خطر التنافس على اقتصادها.
أما قوة الاقتصاد الصيني فهي ليست كذلك، فالصين حتى بعد أن تحررت من الاحتلال الخارجي، وأقامت نظاماً شيوعياً، لم تكن في «عب» الاتحاد السوفييتي، ولا ضمن منظومته الشيوعية، بل اختطت لنفسها طريقاً آخر، مع دول العالم الثالث وفق مسار عدم الانحياز، وهي بذلك لم تتجنب فقط العبء الاقتصادي والسياسي الناجم عن الحرب الباردة وحسب، بل كذلك العبء الداخلي الذي نجم عن استبداد النظام الشيوعي نفسه، وبالتالي تجنبت نتائج سقوطه المدوي مطلع تسعينيات القرن الماضي، فيما كانت الإصلاحات السياسية والاقتصادية في الصين قد بدأت قبل ذلك بسنوات حين تولى قيادة شوؤن الدولة والحزب دينج هيسياو بينج خلفاً لزعيمها التاريخي ماو تسي تونغ، وقام بينج بتبني اقتصاد السوق منذ العام 1978، في ظل حكم الحزب الشيوعي للبلاد، أي عبر ابتداع نظام مختلط أو مشترك سياسي/اقتصادي، في شقه السياسي يحكم الحزب بشكل جماعي ووفق نظام داخلي محكم في إخلاصه للدولة، مع اقتصاد يقوم على الحوافز الفردية، دون الوصول لحد السطوة على مقدرات الدولة والناس.
أما إسرائيل فإنها ظهرت إلى الوجود مع نتيجة الحرب العالمية الثانية، وهكذا ظلت إسرائيل مدينة بوجودها للنظام الاستعماري حين كانت تقوده بريطانيا ثم حين صارت تقوده أميركا. فإنها - نقصد إسرائيل، ظلت محكومة بمنطق نشأتها، حتى إذا وضعت الحرب الباردة رحالها، وجدت نفسها أمام منعطف حاد، لا بد لها أن تغير معه جلدها، وإلا فقد تجد نفسها في مهب ريح نظام عالمي آخر قادم.
وإسرائيل في ظل الحرب الباردة، كانت تؤدي دورها لصالح المعسكر الإمبريالي، كهراوة مهمتها محاربة حركة التحرر العربي، ومنع طموحها في تحقيق الوحدة العربية، وبالطبع تصدت بكل القوة والجبروت الاستعماري لحركة التحرر الفلسطينية، لدرجة خوض غمار حرب الإبادة الجماعية ضدها، وذلك في عصر ما بعد الحرب الباردة!
وإسرائيل في حقيقة الأمر تدرك أن النظام الغربي الذي أقامها، والذي ظل يحميها حتى هذه اللحظة، سيظل يفعل ذلك طالما بقيت تؤدي له المهمة الأمنية الاستعمارية التي أقامها من أجلها، لكن حين يضع العالم حداً لكل ما له علاقة بعهد الاستعمار، فإن الغرب بما فيه أميركا سيرفع يده عنها، حينها عليها أن تعتمد على نفسها، ولهذا بدأت تفكر في حقبة ما بعد النظام العالمي الأميركي، وسعت إلى استغلال لحظة ما زالت فيها أميركا متحكمة بالعالم سياسياً وعسكرياً، لتقوم أميركا نفسها بتحصين ليس بقاء إسرائيل وحسب، ولكن بإحلالها مكانها في السيطرة على الشرق الأوسط الذي ظل دائماً يحتل مكاناً مركزياً في اهتمام العالم، نظراً لتوسطه العالم القديم وممرات التجارة العالمية، ولاحتوائه على أعظم مخزون للطاقة النفطية والغازية في العالم.
في مواجهة التحول الداخلي، ظهرت في إسرائيل، دولة ثانية، غير تلك التي تأسست بين عامي التأسيس وانهيار جدار برلين، وما بينهما حرب العام 67، فإسرائيل الأولى كانت دولة شبيهه بدول الغرب، ومرتبطة به تماماً، وتنفذ سياساته في المنطقة، لكن حرب العام 67، فتحت الباب لإسرائيل الثانية، التي شقت طريقها بقوة بعد انتهاء الحرب الباردة، فصارت إسرائيل تفكر في ضم الأرض المحتلة العام 67، ولم تعد تقبل بمقايضتها باتفاقيات السلام والتطبيع، كما كانت من قبل.
دولة إسرائيل الأولى أقيمت خارج الأرض التي يقول التلمود إنها أرض يهودا والسامرة، دولة علمانية غربية، على أرض غريبة، لهذا كان الاستيطان في الضفة الفلسطينية بالتحديد أهم قوة رفع لنشوء إسرائيل الثانية، إسرائيل اللاهوت، أو الدولة الدينية التي تجمع التطرف مع الاحتلال والاستيطان، باعتمادها على الأحزاب الدينية واليمينية المتطرفة، وهكذا وجدت إسرائيل الثانية فرصتها في تحجيم إسرائيل الأولى أولاً داخل حدود الساحل والمدن الكبرى والمختلطة، وفي قتل اليسار بعد محاولته الأخيرة التوصل للسلام عبر التفاوض في أوسلو، ثم في محاولة تغيير محتوى القضاء ومؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش والأجهزة الأمنية وهي المعركة التي لا تزال دائرة الآن.
هذا الصراع الداخلي في إسرائيل هو أهم العوامل التي تواجهها، ونتيجته ستتحدد في سياق الصراع الكوني على النظام العالمي، ووفق مسار تغيير شكل ومحتوى وطبيعة النظام الإقليمي نفسه، ومعضلة إسرائيل تكمن في أن دولتها الأولى تنتمي للغرب في جغرافيا الشرق، فظلت معزولة ومنعزلة، فيما الثانية تنتمي للماضي الذي ينفتح على الجغرافيا لكنها لا تجد مكانها إلا عبر فرضه بالقوة العسكرية بمنطق الاستعمار، ولهذا تفكر بمنطق الإمبراطوريات القديمة، ومع أن بريطانيا سيطرت على العالم القديم بجغرافيا محدودة، والصين تدخل أسواق العالم كله بسلعها، إلا أن إسرائيل تدخل عنوة دول الشرق الأوسط مسربلة بجرائم الحرب ومدججة بالسلاح، رغم أنها قد حققت تقدماً اقتصادياً لا يقتصر على إنتاج السلاح وحسب، بل على» الهاي تيك»، والأهم على ثروات الغاز في البحر، ومعضلتها الأسوأ، هي أنها لا تنتمي للشرق الأوسط لا قومياً ولا دينياً، ومع ذلك تسعى لفرض وجودها بالقوة، حيث لا تجد إلا باباً موصداً.