- إطلاق نار من طائرات الاحتلال "الأباتشي" شمال شرق البريج وسط قطاع
مرة أخرى، يدفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الوضع في الشرق الأوسط نحو حافة الهاوية، هذه المرة باغتيال الجنرال قاسم سليماني الرجل القوي في إيران، والذي كانت تشير له بعض الأوساط باعتباره الخليفة المحتمل للمرشد الأعلى والذي يدير كل مهمات إيران بالخارج ومعاركها التي لم تخسرها بعكس ما قال الرئيس الأميركي.
مرة أخرى، يثبت الرئيس الأميركي أن سلوكه خارج كل التوقعات واعتقاد كل المحللين. فالمنطق يقول إن لا أحد من رؤساء البيت الأبيض كان مستعداً للمغامرة بحرب في عام الانتخابات. وجميع الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة تسببت بخسائر للاقتصاد الأميركي وهو ما مكن ترامب من تحقيق إنجازات حقيقية، والجميع أيضاً كان يعتقد أن اغتيال شخصية بحجم قاسم سليماني تعني الحرب، وربما أن إيران اعتقدت ذلك أيضاً لكن ما هو غير متوقع حصل.
في اللحظة الأولى للاغتيال، لم يكن هناك مجال للشك بأن المنطقة انزلقت نحو الحريق الذي يخشاه الجميع. ولكن بعد مرور ساعات اتضح أن حسابات الحرب أكبر كثيراً في منطقة ان اشتعلت لا يعرف أحد مدى اللهب ورقعة اتساعه خاصة أن لا أحد من الطرفين، الولايات المتحدة وإيران، يريدها. فالخارجية الأميركية أعلنت أن «الولايات المتحدة لا تريد الحرب»، فهي قد حققت هدفها وانتهت. أما إيران التي تمر بأسوأ مراحل الحصار كما قال المرشد الأعلى خامنئي فمن الصعب أن تختار هذه اللحظة لتوسيع رقعة الحرب، وخصوصاً أنها خاضت معارك خلال السنوات التسع الماضية استنزفت كثيراً من طاقاتها، وتشهد الدول التي تعتبر في غلافها بعض التظاهرات والاحتجاجات وسط محيط عربي معاد تماماً بل وينتظر اللحظة لمهاجمة طهران وقد دفع باتجاه الحرب حين أسقطت إيران طائرة التجسس الأميركية في حزيران الماضي.
إسرائيل لم تكن بمعزل عن عملية الاغتيال للرجل الذي تصنفه بالعدو رقم «1»، وقد حاولت اغتياله سابقاً يوم أن اغتالت عماد مغنية لكن الرفض الأميركي هو ما حال دون ذلك حينها وقد قدمت لها الهدية الآن على أبواب الانتخابات التي ستجريها بعد شهرين من الاغتيال لتضاف الى سجل نتنياهو الذي يقول الصحافيون الإسرائيليون، إنه جعل من إيران ملف حياته.
وزير الدفاع نفتالي بينيت ربما فضح الدور الإسرائيلي عندما قال الأسبوع الماضي، «لا حصانة لأي مسؤول إيراني»، ولم تؤخذ تصريحاته على محمل الجد ليتضح أن ذلك المسؤول هو قائد فيلق القدس، والاجتماعات المكثفة التي عقدها المجلس الوزاري المصغر «الكابنيت» والتي قيل تمويهاً إنها لنقاش التهدئة مع غزة اتضح أنها للتحضير لردود فعل ما بعد اغتيال سليماني وتوقعات التصعيد من الشمال. ومن الطبيعي أن تكون الولايات المتحدة قد تشاورت مع إسرائيل لأن واحدا من الاحتمالات هو التصعيد ضدها وعليها أن تكون جاهزة.
السؤال الآن: وماذا بعد؟. فالاغتيال ليس عملية عابرة بل تضع المنطقة كلها على مفترق طرق كبير بلا مبالغة، وان كانت تضع إيران أمام خيارات لم تكن تتمناها. فالرد العسكري يعني الحرب وهو آخر ما تريده الآن، ليس فقط بسبب الأوضاع في المنطقة بل لأن الرئيس الأميركي الذي قامر في عام الانتخابات لن يسمح باستخدام قوة متواضعة كما كان يفعل الرئيس أوباما لأن حرباً في هذا الظرف بالنسبة له تعني وضع مستقبله السياسي على المحك وقد بدأ بنقل معدات حربية وقطع بحرية وطائرات من بحر الصين وجنود وكل أدوات القتال الى المنطقة تحسباً للحرب، وإيران ليست بتلك السذاجة لدفع الأمور باتجاه التدمير.
لكن الأهم من ذلك وهو الخيار الثاني أو السيناريو الآخر أن تصمت إيران أو لا ترد إذا ما أجرت كل تلك الحسابات. وهنا فإن تكلفة هذا السيناريو لن تكون أقل من الأول بالمعنى المعنوي والذي يعني ضربة كبيرة لـ»هيبة» إيران، ليس فقط أمام خصومها في المنطقة بل الأكثر تكلفة أمام حلفائها لأن تلك الهيبة هي العمود الفقري لتماسك تحالفها، وتلك معضلة إيران التي قامت بتعيين خليفة لسليماني على الفور.
الحقيقة أن هناك حدثين سبقا اغتيال سليماني قامت بهما إسرائيل ربما يصلحان للقياس الى حد ما وقد تم استهداف أشد حلفاء إيران خلال الأشهر الماضية وربما أن أطرافها أجرت حسابات لكن النتيجة كانت متشابهة، الأول هو قيام إسرائيل في حزيران الماضي باستهداف «حزب الله» بهجمات في الضاحية الجنوبية لبيروت معقل الحزب، وهو ما وصفه الأمين العام للحزب بأنه «مثّل تطوراً خطيراً». لكن رد الحزب كان عكس التوقعات باستهداف آلية عسكرية فارغة، والحدث الثاني هو استهداف الرجل الأقوى في حركة الجهاد الإسلامي وهو ما كان يعني الحرب بالنسبة للفصائل، لكن «الجهاد الإسلامي» رد رداً محدوداً ولم تندلع الحرب وقبل «الجهاد» بالتهدئة.
هذه المرة، الضربة في رأس المحور وان كانت إيران تمتلك من القوة ما لا يمكن مقارنته مع «حزب الله» أو «الجهاد» ولكن الحسابات الإيرانية أغلب الظن لم تختلف كثيراً عن حسابات أطراف المحور التي تعرضت لشيء مشابه، فالظروف جميعها تملي على إيران حسابات أكثر هدوءا من الردود السريعة، والتوقيت لا يمكن أن يكون في صالحها لذا بدت احتمالية الحرب تتراجع منذ الساعات الأولى، وبقي المحللون يتساءلون كيف وأين سترد إيران، بل إن الصحافة الاسرائيلية بدأت الاعتقاد بأن الرد الإيراني يحتاج الى عمليات استخباراتية والبحث عن أهداف وتلك تحتاج الى وقت أطول.
بعض التحليلات ذهب أبعد ربما نحو الانتخابات الأميركية وانتظار إيران لها والنظر في إمكانية أن ردها سيساهم في تعزيز الرئيس ترامب أو تعزيز الحزب الديمقراطي. بمعنى أو بآخر فإن الحديث عن أشهر طويلة يعني تأجيل الأزمة أو انتزاع فتيلها لأن الأشهر القادمة ستحمل مفاجآت كثيرة ستملي على الأطراف جدول أعمال مختلفا وأولويات مفاجئة قد تختلف عن جدول أعمال مطلع العام.
بكل الظروف، ربما ستبحث طهران عن رد وسط بين الحرب وبين الصمت، لا يمكن التقليل من حادثة الاغتيال ولكن أيضاً لا يمكن إغفال كل حسابات المنطق التي تقول إننا مع كل ساعة نبتعد أكثر عن الحرب لأنها ستحرق المنطقة، هذا هو منطق الأشياء إلا إذا صدقت نبوءة «فوكس نيوز» الأميركية أو معلوماتها التي قالت صباح أمس، «تفصلنا 48 ساعة عن الحرب التي ستبدأ بعد تشييع سليماني لا محال، استنفار عام للقوات الإيرانية في المنطقة» ...حينها يكون ترامب قد قامر بأكبر من مستقبله السياسي.