تخطت الجزائر الشقيقة، حاجزين فارقين، فانتقلت من خط العجز عن التغيير، الى منصة الإنطلاق اليه على كل صعيد. فقد اختار الجزائريون رئيسهم الثامن، الرجل المجرب الذي تعرف على مواضع الخلل في إدارة البلاد، وانزوى لعشر سنوات قبل أن يُستدعى مرة أخرى لمعالجة بعض الملفات الشائكة ثم أحبطه المحبطون. وفي الغضون، نطق القضاء الجزائري، بحكم الحبس لعشرين سنة، على اثنين من رؤساء الحكومات، ونطق أيضاً بمصادرة ممتلكاتهم وحسابات الأبناء والأصهار والتابعين، وأصدر أحكاماً أخرى على موظفين مساعدين ورجال أعمال متواطئين، استسلهوا الإضرار بالمال العام وخانوا الأمانة لتحقيق الإثراء الحرام!
في اختيار عبد المجيد تبون رئيساً، وحبس أحمد أو يحيى وعبد المالك سلال، وإطلاق عملية واسعة وشاملة لتجفيف منابع الفساد، والإعلاء من شأن القضاء؛ حققت انتفاضة الشعب الجزائري أولى أهدافها، وفرض الشباب من الشارع، أنفسهم وإرادتهم، كأصحاب حق ودور في معادلة السياسة، وبرهنوا على جاهزيتهم للعمل والتدخل لتقويم أي انحراف. في الوقت نفسه، أثبتت الدولة، بمساندة الجيش الشعبي الوطني، أنها قادرة على الحسم والحفاظ على إرث الجمهورية والثورة، وتنبهت الى مخاطر الأعراض الجانبية، وفوتت الفرصة على من يريدون طي إرث ثورة نوفمبر 1954 التاريخية التحريرية. امتنعت الدولة على الراغبين في إدخالها متاهات المراحل الإنتقالية، وتعريض الجزائر لمخاطر جسيمة كانت ستواجهها بفتح المجال أمام قوى غير منتخبة، تعينها السفارات الغربية، لكي تقود البلاد إلى صراعات طائفية وعرقية مدمرة. وبهذا العناد في الحق الجزائري في ترسيخ الإستقلال الوطني، انتصر اسلاف الثوريين، عندما صمدوا ورفضوا تدمير كل المكتسبات في ضربة واحدة وفي انفجار غضب، وبجريرة فاسدين. فقد ىرفضوا اللجوء الى مجلس تأسيسي تتحكم في بوصلته أقليات لغوية وإثنية ورجال أعمال وشرائح ضيقة، تمتلك جميعاً حق النقض، وتؤثر في خط المستقبل، على النحو الذي يشطب الهوية التي تشكلت بتلاقح ثقافة الأحرار الجزائريين من كل لون، مع المنحى الإسلامي المستنير الذي أسسه عبد الحميد بن باديس. فلا يحق لأي حزب متأسلم أن يزاود على الجزائريين في مسألة الهوية، لأن هؤلاء حسموا أمر الذود عن الهوية، منذ أن بادر ابن باديس، الى تأسيس جمعية العلماء المسلمين في العام 1931 وأوقد شمعه الروح الجزائرية وسط الظلام الإستعماري والتغريبي. فهو رجل الإستقلال والوطنية العالية والإستنارة الدينية، ورمز وحدة الجزائريين من كل الأعراق، والأمازيغي الذي تجاوز النعرات وهتف شعراً: شعبُ الجزائر مُسلمٌ .. والى العروبة ينتسب!
الآن، وبعد أن انتخب الجزائريون رئيسهم بالإقتراع الديموقراطي الحر، يخطيء من لا يرى في ذلك تدشيناً لمسار سياسي واجتماعي ونضالي جديد، يستهله الجزائريون بالانتخابات البلدية في الثاني عشر من الشهر المقبل، أي مع دخول العشرية الثالثة من هذا القرن، على أن تمر بعدها البلاد بمحطات فارقة، مع الإصرار على أن يبقى الصندوق الانتخابي الشفاف هو الطريق الوحيد للوصول إلى السلطة. ويكفي للثناء على هذه الدولة وجيشها الوطني، أن قطرة دم واحدة لم تسفك في الأوقات العصيبة من تاريخ البلاد، إذ رافق الجيش سلمية الجماهير، وبدل الإنقضاض على الناس انقض على العصابة، وهذه أبسط البراهين على حُسن المقاصد وبطلان لغة التشكيك في العسكر، الذين هم من أبناء البلاد ومن قماشة الشعب ودمه ولحمه!
ومثلما استجاب الناخب للمشح عبد المجيد تبون، فإن العزم لدى الرجل، أن يفتح للجزائريين على مختلف توجهاتهم ومشاربهم، أبواب الحوار الحقيقية، لكي يستمعوا إلى بعضهم البعض، فتتعطل لغة التخوين والتسفيه واحتكار الوطنية واحتكار الدين.
في خلال 48 ساعة، انتصرت جزائر التاريخ والهوية، ولا مهزومين سوى أولئك الذين أثاروا البغضاء والغلو وحاولوا أخذ الشارع الى العدم. أما الشباب في الشارع، فسيعلم منهم من لا يعلم حتى الآن، أنه انتصر. فالأمور تجري في السياق الذي أراده الشباب، وعلى النحو الذي يحفظ الدولة، ويعدل بوصلتها الدستورية والقضائية والرقابية خدمة لمصالح الطبقات الشعبية، وتجفيفاً لمستنقعات الفساد، وسداً للمنافذ التي يتسلل منها أصحاب الأجندات المتخطية للحسابات الوطنية!