مفارقة مدهشة: يسعى الاحتلال لتغييب الشعب الفلسطيني ونفيه، فيغيّب نفسه وينفيها، ويختار عزل نفسه عن العالم، فأي سخرية تلك التي يعيشها المحتلون! نزداد حضوراً، ولو أن الحضور مؤلم.
- واوي بالع منجل!
- ...............
- منذ العام 1967؟
- ................
هل احتجنا هذه السنوات كلها حتى نعرف أن دولة الاحتلال قد حسمت أمرها، في المضي بالاحتلال إلى أبعد مدى مهما واكب ذلك من اقترافها لجرائم بحق شعبنا؟
بصراحة، لم أصدّق يوماً من الأيام أن هذه الدولة المحتلة ستقبل بأي حلّ ينتقص ما تنهبه من أرض وموارد؛ فكل ما رشح عندي طفلاً وفتى وشاباً وخمسينياً (مولود عام هزيمة 67)، بأن إسرائيل لا تريدنا إلا عمالاً ليس أكثر؛ فحتى أيام روابط القرى، كنت أهمس لنفسي بأن ما تفعله سلطات الاحتلال من تسهيلات وقتها، إنما تفعله حتى لا تفعل ما ينبغي فعله فيما بعد.
كتبت قبل أسابع أن دولة الاحتلال الآن، في ظل عدم نيتها بأي حال من الأحوال قبول حل الدولتين، فإن أقصى ما يمكن أن تقبله هو النظر للشعب الفلسطيني على أنه تجمعات سكانية غير يهودية فيها، مستذكراً ما احتواه وعد بلفور «على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين»، طبعاً في ظل ما وعدته بريطانيا إقامة وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين.
لذلك راح سموتريتش يتحدث عن ضم غريب يجعل مواطنتنا ملتبسة يفسرها الاحتلال كما يشاء ووقتما يشاء، موسعها ومقللها.
ولذلك، فإن ما تفعله دولة الاحتلال من احتقار للأمم المتحدة ليس غريباً، ومن يهن يسهل الهوان عليه، وطوال عمرها فإن المؤسسة الأممية في موضوع فلسطين، وهي تهان وتذل و»يمسح بها الأرض» من قبل الاحتلال، بل لقد تم ذلك داخل الأمم المتحدة من تمزيق لأدبياتها وقراراتها.
الأمم المتحدة بالنسبة لنا أصلاً مدانة، ومشتركة مع الاحتلال في شرعنة الاحتلال، فلو كانت الأمم المتحدة مؤسسة تحترم نفسها، وبأنها فعلاً مؤسسة تمثل العالم، لطردت إسرائيل منذ زمن، بل وما كان لها أصلاً قبول الاعتراف المشروط بإسرائيل إن نفذت الشرط الدولي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم الأصلية.
كان المغني على حق عندما غنى «لا بدنا طحين ولا سردين»، فهل سنرثي المقرّ الثاني لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في القدس؟ لو لم تفعل وكالة الأمم المتحدة ذلك، لفعلته الأمم والشعوب. بل ما يثير الشجن والغضب أن تشكيل الوكالة تم بطريقة غريبة في مرجعيتها، ولعل الخبراء في القانون الدولي يوضحون لنا إشكالية تأسيس الوكالة، ودليل ذلك هو ما نشهده اليوم من تمادي سلطات الاحتلال!
ما فعلته إسرائيل من احتقار للأمم المتحدة ينبغي أن يجعلها تعيد النظر ليس في تعاملها مع الاحتلال بل في وجودها.
لقد تجاوزت إسرائيل المحتلة كل مواثيق الأمم المتحدة، ولكنها بقيت عضواً!
إذاً فقد «أدارت إسرائيل ظهرها» للعالم ومضت في غطرستها، وليس في هذا اكتشاف؛ فسياسة الأمر الواقع مستمرة وبالقوة طبعاً؛ فلم يكن الاحتلال محتاجاً لوصية أرئيل شارون بأنه إذا لم يقبل الفلسطينيون من خلال استخدام القوة، فلنستخدم المزيد منها.
طيب وبعدين؟
كيف ستوظف إسرائيل نتيجة الحرب؟ هل إلى اختيار السلام مثلاً أم المزيد من القمع لتغييبنا وبالتالي عزلتها؟
لم تنتصر إسرائيل لكنها أجرمت. لم تنته المقاومة لكنها ضعفت.
وعندما نقول إسرائيل، لا نقصد حكومة الاحتلال فقط، بل إن معظم المجتمع اليهودي، ليس لأنه من اختار ممثليه من اليمين المتطرف، بل لأنه أصلاً يعرف في قرارة نفسه أنه يسطو على أرض غير أرضه.
وعليه، ربما على الأقلية اليهودية في المجتمع الاستيطاني في فلسطين أن تفعل شيئاً لتخلص الأغلبية من وهمها، وبأنه ليست هناك ضمانة لاستمرار النهب والسرقة، فللأرض أصحابها الشرعيون وهم هذا الشعب الباقي في فلسطين واللاجئون منهم خارج فلسطين.
لم يضعف العتاد الإسرائيلي، فقد تم تعويض جيش الاحتلال عمّا خسر من سلاح بدعمه بسلاح متفوق ذي قدرة على الفتك بأجسادنا، في الوقت الذي لم يعوض المسلحون في غزة بأي سلاح. ولكن ثمة مفارقة في الاستخدام. ستضعف يد جندي الاحتلال يوماً، حين سيكتشف أي حرب قذرة يشترك بها.
والآن؟ في ظل تكلس الحلول، وفي ظل خشية إسرائيل من الانعزال والعزلة؟
آن الأوان أن يلجأ الاحتلال (حكومة وشعباً) مرة إلى العقلانية لا لاستخدام القوة، لأن كل هذا الجنون لم يحسم الأمور ولن يحسمها.
كان من الممكن تجنب الحروب التي لم تكن خياراً فلسطينياً.
معروفة طريق العقل، ومعروفة طرق الحكماء، التي بالطبع تختلف عن طرق غيرهم.
وفي الوقت الذي ينبغي فعلاً تقييم الحالة الفلسطينية، بطريقة جادة هادئة وصريحة، فإنه صار من اللازم حرمان دولة الاحتلال من أي مبررات للانتقاص من بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه، أكان ذلك من خلال حل الدولتين، لكن ليس مجرد أي دولة فلسطينية، بل دولة فلسطينية ذات سيادة مرجعيتها المشروع الوطني الفلسطيني، أو كان ذلك من خلال الدولة الواحدة لشعبين، على قدر المساواة والاحترام.
واليوم في ظل رفض الاحتلال لأي كيانية فلسطينية، إلا تلك الكيانية المهندسة إسرائيلياً، فلا يمكن عقد أي اتفاقيات للسلام تقوم على الاستسلام.
وسيعد أبناء العروبة لا للعشرة بل للمليون وهم يرون سوء نوايا الاحتلال.
فقط المطلوب من النظم والدول الصديقة والشقيقة أن تتحدث بصراحة مع الاحتلال وحليفتها، أكان المتحدث معه بلينكين أو ترامب، بأن ما تقبله النظم والشعوب هو نفسه ما يقبله العقل. وما يقبله العقل هو حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً. في ظل ذلك، من الضروري ترك الفلسطينيين لبناء نظامهم السياسي الواحد في ظل وحدة وطنية تجمع الأطياف جميعها؛ فما يبدو اليوم واضحاً أن ذلك صار ممكناً فعلاً.
الصراحة مفيدة حتى لو غضب منها الاحتلال وحلفاؤه.
المطلوب:
- وقف الحرب في سياقها الحقيقي لإنهاء الحروب وتجنبها مستقبلاً. خلال ذلك سيكون من السهل الوصول إلى الحل في لبنان الشقيق.
- إعلان حكومة توافق وطني تقود حلاً سياسياً مجمعاً عليه، تغيث غزة وتعمرها، بدعم الأشقاء وغيرهم. ولعل لقاء القاهرة اليوم يقربنا من هدفنا.
- باقي الأمور لو أردنا فعلاً، هي تفاصيل يمكن الاتفاق عليها بمساعدة أطراف جادة فعلاً تريد عمل اختراق حقيقي للوصول إلى سلام.
أمامنا جميعاً الكثير لننجزه، أمامنا سنوات بناء بيوت لعلنا جميعاً لأول مرة ننجح في بناء الثقة ليعيش الكل بسلام.