تفيد القراءات الاسرائيلية بأن زيارة مبعوث ترامب لشؤون المنطقة الى كل من تل ابيب والدوحة، تشكل دليلا على مدى اولوية صفقة تبادل الرهائن، وكذلك الى مدى التوافق في هذا الصدد بين ادارة ترامب الذي سيدخل البيت الابيض في العشرين من كانون ثان/يناير الجاري وبين ادارة بايدن في ايامها الاخيرة. فيما اعتبرت الوزيرة اوريت ستروك أن ابرام صفقة التبادل يشكل "أكبر هدية للإرهاب" ودعت الى ضم القطاع واستيطانه على الاقل شماله.
نتنياهو في رده على المعترضين على الصفقة بما فيهم سموترتش الذي طالب بتوضيحات وعقد جلسة خاصة للحكومة ، أشار بصورة لافته الى أن اسرائيل "ملزمة بأن يبقى ترامب الى جانبنا وممنوع قطعيا ان نخرب العلاقات معه حتى قبل دخوله البيت الأبيض، أضاف" ينبغي ان نقوم بكل ما لا يخلق انطباعا لديه بأننا نحن من يمس به او يعيق انهاء هذه المسألة في غزة". واعتبر نتنياهو أن "اسرائيل مضطرة الى هذه الصفقة حتى وإن لم تكن صفقة مثالية، لكن الحاجة اليها ناتجة عن اولوية المهام الكبرى" مثل الحرب ضد إيران ومساعي الولايات المتحدة للدفع بالتطبيع مع السعودية.
وفقا للتقديرات الاسرائيلية فإن نتنياهو بات أقرب في تقديراته الى موقف الجيش بأن مواصلة اراقة دماء الفلسطينيين في غزة "لا يحسن من وضع اسرائيل الاستراتيجي" وحصريا في اعقاب الثمن الاسرائيلي وتزايد اعداد الجنود القتلى. فيما يبقى التحدي امامه هل سينحو صوب "اعطاء الاولوية لمصلحة الامن القومي الاسرائيلي" ام سيخضع لتهديدات بن غفير وسموتريتش وستروك، وهذه الاخيرة هي الاكثر عقائدية وتأثيرا في اوساط الصهيونية الدينية التي قد تنقلب على سموتريتش "لاعتداله".
نتنياهو المنشغل بعد ضغوط إدارة ترامب بالحفاظ على ائتلاف حكومته، يراهن على حجة ان الصفقة في حال أبرمت ستتم على مراحل، وسيبقى الاحتلال الاسرائيلي قائما في محوري صلاح الدين/فيلادلفي ونيتسريم ، وعلى قدرته على استئناف الحرب في اية لحظة، وبأن ادارة شؤون غزة اي "اليوم التالي" للحرب سوف تُرجأ الى المرحلة الاخيرة. في المقابل لا يقتنع اقصى اليمين بهذه الحجج، وبشكل خاص بعد تراجع المواقف الاسرائيلية في الايام الاخيرة بصدد تأجيل الانسحاب من لبنان في اليوم الستين للهدنة المؤقتة، بعد ان اعلن الجيش والمستوى السياسي بأن التواجد العسكري الاسرائيلي في لبنان مستدام و"على الاقل لمدة عام".
قراءة:
ستكشف الايام ان كان الرهان الجديد لأقصى اليمين الاسرائيلي من الليكود والصهيونية الدينية على ترامب مجديا، ام ان دخوله البيت الابيض سيشكل بداية انكسار حلم هذا التيار ورهانه بالقضاء على قضية فلسطين وبضم الضفة الغربية التي يعتبرها هذا اليمين درّة التاج في مشروعه الاستيطاني الإحلالي ووفقا لعقيدته "الميسيانية" التوراتية. لقد بنى هذا التيار برنامجه التوسعي في معظم المناطق الفلسطينية بما فيها غزة ، اعتمادا على ان أنصاره باتوا في موقع القرار والتأثير في واشنطن خاصة بين أثرياء الولايات المتحدة مثل، مريم ادلسون وجيفري ياس الذين تبرعوا بنحو ربع مليار دولار لحملة ترامب الانتخابية، كي يدعم ضم الضفة الغربية في حال انتخابه، كما وجدوا التشجيع في طبيعة تعيينات ترامب لطاقمه الخاص بالمنطقة من دعاة الضم و"ارض اسرائيل الكبرى" وشطب قضية فلسطين. لكن هذا التيار اليمني المتطرف بدا يدرك ان تعيينات الإدارة الجديدة، لا يعكس بالضرورة طبيعة السياسة الامريكية ومحدودية قدرة ترامب على المناورة في ضوء المتغيرات الاقليمية والدولية والتغيير في وضعية اسرائيل عالميا، وكذا تصدر القضية الفلسطينية عربيا واقليميا ودوليا.
نتنياهو نجح في تجاوز كل المحاولات المعارِضة بل حتى ضغوط ادارة بايدن لتقويض حكمه، قد باءت بالفشل، وخرج منها أقوى مما كان عليه قبل عام، إلا أنه يقف الان امام التحدي الأكبر، هل يسير وفقا لسياسة ترامب واولويات ادارته دوليا، أم سيذعن لابتزازات حزبي الصهيونية الدينية التي احيانا يحتاجها تكتيكيا لدرء الضغوطات الخارجية. في حين ان ترامب بخلاف بايدن هو الموثوق لدى اوساط أقصى اليمين الاسرائيلي.
لقد نبّه رئيس حزب "يسرائيل بيتينو" افيغدور ليبرمان بعد انتخاب ترامب، من أن نتنياهو لا يستطيع التعاطي بائتلافه القائم مع اولويات ترامب بل قد "ينقلب على ائتلافه" فيما لو كان ذلك الامكانية الوحيدة للحفاظ على حكمه. جاءت تقديرات ليبرمان بناء على اولوية الولايات المتحدة بحزبيها التوصل الى تطبيع العلاقات بين السعودية واسرائيل، ويدرك قطبي الحكم الأمريكي وكذلك نتنياهو، بأن مثل هذا التطبيع يمر من خلال قيام الدولة الفلسطينية وفقا لخطة السلام العربية من العام 2002. في حال تم الحسم بهذا الاتجاه، فإنه يعني نهاية ائتلاف نتنياهو الحاكم وانكسار لحلم أقصى اليمين الذي اعلن على لسان سموتريتش بأن العام 2025 هو عام فرض السيادة الاسرائيلية على الضفة الغربية.
رغم رهان اليمين الاسرائيلي على ترامب الا انه بدأ يدرك، ان اولويات الاخير تختلف عما كانت عليه في دورته الرئاسية السابقة، وليس بالضرورة بسبب تغير وجهة نظره وإنما بسبب المتغيرات الاقليمية والدولية وتراجع جوهري في دور اسرائيل ونفوذها الاستراتيجي الذي تم التعويل عليه في الاتفاقات الإبراهيمية ومخططات صفقة القرن، وفكرة اقامة تحالف عسكري اقليمي إسرائيلي عربي في محوره اسرائيل ضد ايران، بينما يشكل تراجع دور اسرائيل ونفوذها وأزماتها الداخلية، سببا وجيها لعدم رهان ترامب على سياساتها، وقد عبر عن استيائه من سياسات نتنياهو في اكثر من مناسبة في الآونة الاخيرة.
راهن ترامب وسلفه بايدن على إمكانية تحقيق تطبيع للعلاقات بين إسرائيل والسعودية، لكن السنوات الأربع الماضية أظهرت ان اولويات المنطقة العربية وحصريا الدول الخليجية، تختلف عن أولويات الإدارات في واشنطن ، فهذه الدول بدأت تتعامل في علاقاتها الدولية من منظور مصالحها، وباتت تدرك عوامل قوتها ودورها في ترسيخ قواعد نظام عالمي جديد قائم على التعددية القطبية، وهي تراهن اليوم على عناصر قوتها وموقعها في التجارة العالمية ودورها الأساسي في أسواق الطاقة واستقرار الاسعار، كما ان هذه الدول باتت أيضا عامل استقرار إقليمي، بدءا بالتطبيع السعودي الايراني ، وتطور العلاقات التجارية والأمنية بين البلدين ، والامر ينطبق على تطور علاقات راسخة ومستقرة مع روسيا والصين في مجالات مختلفة اقتصادية وعسكرية وتقنية. كل ذلك يحدث في ضوء تراجع دور اسرائيل مكانتها الاقليمية وفي كون سياساتها تهدد امن واستقرار المنطقة ولا يستطيع اي رئيس امريكي تجاهل هذه المعطيات.
ثمة مؤشرات في الساحة السياسية الاسرائيلية بأن حزبي الصهيونية الدينية قد يشهدا تصدعات وانقسامات، كانت بدايتها في الموقف المستقل للنائب ألموغ كوهين عن رئيس حزبه بن غفير في مسألة ميزانية الدولة، وسعيه الى اقامة كتلة برلمانية جديدة خارج "عوتسما يهوديت" وهو أمر مشروع قانونيا في حال انضم اليه عضو اخر من نواب هذا الحزب. كما ظهرت بوادر استياء كبير في صفوف الصهيونية الدينية من سموتريتش ودعوات بتنحيته من رئاسة الحزب.
وفي السياق الداخلي أيضا بدأت تتكشف أيضا امام نتنياهو حقيقة ان التوافق بين حزبي الصهيونية الدينية والاحزاب الحريدية الدينية بات محل شكوك باستمراره، بعد ان دعا عضوان بارزان من شاس الى تشكيل لجنة تحقيق رسمية في اخفاق 7 اكتوبر 2023 وهو اكثر ما يخشاه نتنياهو، وإن تراجع الاثنان بعد ان فرض حزب شاس عليهما ذلك الا ان موقفهما ليس شخصيا، بل هناك قطاعات حزبية بدأت تشكك في امكانية استمرار الائتلاف الحاكم والشراكة مع الليكود.
قد يكون التوافق الجوهري مع ترامب هو بصدد الموقف من إيران، لكن ذلك ليس بالضرورة ان يتم وفقا لنوايا نتنياهو بالحرب الاقليمية المباشرة مع هذه الدولة، فيما قد تفضل الادارة الامريكية الجديدة التوصل الى اتفاق نووي جديد يتماشى مع السياسة الامريكية في منع تكامل المشروع النووي والصاروخي الايراني، وهناك استعداد ايراني للمضي بهذا الاتجاه.
للخلاصة:
• ليس من المستبعد ان تؤدي اولويات ادارة ترامب الى انهاء حكم نتنياهو، وقد يجد رئيس الحكومة انه لا يستطيع الابقاء على ائتلافه الحاكم في ضوء المستجدات الداخلية والخارجية وحصريا اولويات ادارة ترامب. ومن الصعوبة بمكان حاليا تشكيل حكومة وحدة قومية مع المعارضة البرلمانية الصهيونية. مما قد يدفعه نحو انتخابات مبكرة لا تضمن له البقاء في الحكم، مما قد يدفع قيادات اخرى في الليكود للتحرك نحو تغيير نتنياهو.
• يبدو ان منسوب القلق لدى اقصى اليمين من ولاية ترامب الجديدة بات يتفوق على منسوب التفاؤل والرهان الذي ساد في العام الاخير.
• لا يمكن التعويل فلسطينيا او عربيا على ترامب بأنه تغير، بل يضطر الى ملاءمة سياساته للمتغيرات الحاصلة في المنطقة العربية والاقليمية وحتى الدولية.
• العامل الذي بإمكانه ان يكون حاسما امام ترامب هو مدى القدرة على بلورة موقف عربي واقليمي موحد مسنود دوليا، نحو اقامة دولة فلسطين. وكي لا يكون مكان للوهم فإن هكذا موقف لن يجعل الولايات المتحدة تدفع لقيام دولة فلسطين، لكن بإمكانه دفعها لمنع الضم اسرائيليا في الضفة الغربية ولوقف حرب الابادة على غزة.
• مهما كانت احتمالية خيبات اليمين الاسرائيلي من ترامب، فإن السياسة الامريكية ستبقى في الجوهر السند الاول والثابت لاسرائيل.