- قوات الاحتلال تقتحم جامعة بير زيت شمال رام الله
لا ضرورة لإرسال المبعوثين والمحقّقين إلى شمال قطاع غزّة، الذي يتعرّض منذ أكثر من ثلاثة أسابيع لعملية «جزّ العشب».
يكفي لقضاة محكمة العدل الدولية، وزملائهم في الجنائية الدولية أن يشاهدوا شاشات القنوات الفضائية، ليومٍ واحد حتى يتأكّدوا أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي ضالع حتى العظم في ارتكاب مجازر إبادة جماعية، عنصرية.
منذ الأسابيع الأولى لحرب الإبادة، كانت النساء الفلسطينيات المكلومات يرفعن أيديهن إلى السماء، يستصرخن: «وامعتصماه». وقد مضى كثير من الوقت، ليتضح لهنّ، أنّه لا يوجد من يسمع النداء.
ينتاب الفلسطيني شكّ كبير، في أن شعبه ينتمي إلى أمّة عربية أو إلى أمّة إسلامية، وربما وصل إلى نتيجة عملية أنّ الحديث عن أمّة عربية أو إسلامية مجرّد فرضية يثبت التاريخ أنّها فعلاً ليست أكثر من فرضية، أو حلم ذهبت بها رياح الخيانة، والاستذلال، والتواطؤ.
يتأكّد من خلال مجريات الصراع في المحطّات الكبرى منذ نكبة العام 1948، أنّ الإسلام يوجد في جغرافيا خارج جغرافيا الدول العربية والإسلامية، فلقد انتفضت المجتمعات الأميركية و»الغربية»، نصرة لفلسطين وتنديداً بجرائم الاحتلال وشركائه بينما لا تجرؤ المجتمعات العربية والإسلامية عموماً على الخروج بسبب ما تتعرّض له من فقر وقمع.
نساء فلسطين غيّرنَ وجهة الاستصراخ، نحو مناشدة المجتمع الدولي بالتدخّل لوقف جرائم الإبادة والتجويع، لكنهنّ مرّة أخرى أدركن سريعاً أنّ صرخاتهن تصطدم بُحماة إسرائيل وشركائها الذين يُكثرون من التعبير عن القلق، والمطالبات، ويواصلون دعم مرتكبي الجرائم.
يتضرّع الفلسطينيون إلى الله فقط، فهو مقدّر الأعمار. شمال غزّة، في عين العاصفة حيث يُطبّق جيش الاحتلال «خطة الجنرالات» الإجرامية المتدحرجة.
تقضي الخطّة بإرغام السكّان على مغادرة الشمال نحو مدينة غزّة، وذلك بإكمال الحصار، ومنع وصول أيّ مساعدات غذائية أو دوائية وإخراج منشآت وأدوات الدفاع المدني كلّياً عن الخدمة، ومثلها المستشفيات الثلاثة الموجودة في الشمال.
لا ماء، ولا طعام، ولا دواء، ولا طاقة، وممنوع استكمال عملية تطعيم الأطفال، وممنوع وجود أيّ وسائل نقل، إن كانت سيّارات إسعاف أو مركبات مدنية، أو حتى عربات تجرّها حيوانات لنقل المصابين، أو للانتقال بها إلى حيث يُرغمهم جيش الاحتلال على التوجّه.
الرائد محمود بصل الناطق باسم الدفاع المدني، تحوّل إلى مصدر خبر، وتعليق، بعد أن فقد جهازه الإداري في الشمال، كوادره وسيّاراته التي دمّرها الاحتلال، وأجبر فرق الدفاع المدني على المغادرة تحت النار، بعد أن تحوّلوا إلى مواطنين بلا عمل، إلّا بكونهم أهدافاً للقصف.
الدكتور حسام أبو صفيّة مدير مستشفى كمال عدوان بقي مع طبيب آخر، وكلاهما تخصُّص أطفال، ولم يبقَ في المستشفى أيّ طبيب جراحة، أو عظام أو أوعية دموية، وكلّهم خضعوا لعملية اعتقال إثر اقتحام المستشفى.
فقد الدكتور أبو صفيّة ولده، وبقي حارساً على المستشفى وشاهداً على الجرائم، ليعبّر عن حالة صمود الفلسطيني، دون أن يكون قادراً على ممارسة دوره كطبيب، فيما الأطفال يموتون أمام ناظريه، بسبب الجفاف وانعدام التغذية، وصفر مستلزمات طبّية.
في شمال غزّة، بيت لاهيا، وبيت حانون، وجباليا المخيم والبلد، كلّ الناس مستهدفون، ينتظرون الموت، جوعاً أو بسبب القصف الجوّي والمدفعي، الذي يستهدفهم بيتاً بعد الآخر.
لا تحصوا عدد الجرائم والمجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال في شمال القطاع، فالكلّ، وكلّ من يتحرّك، هدف لمجزرة، تستهدف إمّا القتل أو المغادرة، يريد الاحتلال إخلاء كلّ الشمال، كتجربة أولى، لكي يجري تسليمها لشركات أمنية أميركية، حتى لا يتهم جيش الاحتلال باحتلاله، وإليها تسند إدارة المنطقة، ومن خلال تلك الشركات يتمّ توزيع المساعدات.
ولكن ما يجري لا يترك مجالاً لمساعدات، ولا لإدارة، فما أن تنتهي من الأشهر التي أتاحتها الإدارة الأميركية لجيش الاحتلال حتى لا يبقى في الشمال سكّان يحتاجون إلى مساعدات، أو إلى من يدير أحوالهم.
ربّما يتساءل البعض عن سبب استمرار تمسّك من تبقّى من السكان في الشمال بينما هم يتعرّضون إلى القتل والتدمير والجوع.
الفلسطيني في الشمال، أمام خيارين فقط، فهو إمّا أن يأخذ طريق المغادرة، والمرور عَبر «الحلابات»، ليواجهوا القتل أو الاعتقال والإذلال، وكلّ أشكال التعذيب والاغتصاب، وإمّا أن يسلّم أمره لله ويبقى في بيته ينتظر مصيره.
إذا نجحت التجربة في شمال القطاع، فإنّها مرشّحة للانتقال إلى مدينة غزّة، التي لا تزال عامرة بمئات الآلاف من أهلها وممّن نزحوا إليها قسراً من الشمال.
وهكذا تنتقل التجربة من منطقة إلى أخرى، وصولاً إلى ما يسمّيه المتطرّف الفاشي إيتمار بن غفير، هجرة طوعية، حين لا يجد الفلسطيني خياراً للنجاة من الموت، إلّا أن يجد طريقاً للهرب.
لا يدرك صنّاع السياسة ومرتكبو جرائم الإبادة وشركاؤهم أن تجربة الفلسطيني الطويلة علّمته ألا يغادر أرضه حتى لو أنّها ستتحوّل إلى مقبرته. ها هي التجربة تؤكّد ذلك، فبالرغم من مجازر القتل الجماعي، وقصف البيوت والخيام فوق رؤوس ساكنيها، بالرغم من انتظار الموت، فإنّهم باقون صامدون، يرفضون الخضوع لأوامر المحتل، حين يكون عشرات الشهداء والجرحى، حصيلة قصف أحد البيوت، أو أماكن الإيواء فإنّ هذا مؤشّر على وجود مئات الآلاف من الناس لا يزالون هناك لا يبرحون أماكنهم.
إذا كان ثمة من يقف في قفص الاتهام والمسؤولية عمّا يتعرضّ له الشعب الفلسطيني، خصوصاً في قطاع غزّة، فهو المحتل الإسرائيلي وشريكته الولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية الغربية التي لا تزال تقدّم الأسلحة والذخائر والدعم والغطاء السياسي للاحتلال.
ولكن من وجهة نظر الفلسطيني الذي يواجه الإبادة، فإنّ ثمّة متهمين آخرين، هم الأشقاء الذين يملكون القدرة والإمكانية على وقف تلك الحرب المجرمة لكنهم لا يفعلون.
لا سبب مقنعاً ولا ذريعة لاستمرار الشلل العربي والإسلامي، أمام ما تقوم به دولة الاحتلال التي لا يكفّ مسؤولون فيها عن الترويج لدولتهم المتوسّعة في الإقليم، بما يشمل الدول المجاورة وما هو أبعد.