نجحت الولايات المتحدة، بقوة الضغط العسكري لجيش الاحتلال، أن تفرض على حزب الله فك ارتباط جبهتي غزة ولبنان، الذي تحدث عنهما بداية عدوانية 7 أكتوبر 2024، وبدأت في ووضع ترتيبات ملامح اليوم التالي بما يتوافق وجوهر ما هدفت له، خاصة ما يتعلق بتنفيذ قرار مجلس الأمن 1701، ما سيعيد تركيب النظام السياسي اللبناني وفقا لرؤية جديدة، خالية من "قوة عسكرية" خارج الشرعية الرسمية.
الفصل بين جبهتي الحرب، لم يكن مفاجئا خاصة بعد اغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله، وتلاه اغتيال هاشم صفي الدين، ما فرض واقعا جديدا، بعيدا عن التخفيف من حجم الضربة الاغتيالية، مع حرب تدميرية تتسع يوميا لتشمل مناطق جديدة، أدت لبروز ظاهرة نزوح مثلت ضغطا مضافا، رغم محاولة "الحد" من آثارها الاجتماعية السياسية، خلافا لما هو في قطاع غزة.
النجاح الأمريكي في فرض مسار سياسي "مستقل" في لبنان، ووضع قواعد انطلاق لحل لم يعد بعيد، لعوامل مختلفة، و"صفقات غير معلنة" مع أطراف متعددة محلية وغير محلية، وكشف حقيقة "القدرة الأمريكية" في فرض قواعد انضباطية وسلوك متجاوب لدولة الفاشية اليهودية، خاصة بعد "المناغشة العسكرية" بينها وبلاد الفرس، بعيدا عن "الشعارات الكبيرة" التي تطلق في تل أبيب وطهران.
مقابل "الحراك السياسي الحيوي" في لبنان، أصبح واضحا، أن حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة لن تجد لها نهاية "قريبة"، وتم "التوافق الصامت" على ديمومتها إلى ما بعد الانتخابات الأمريكية في نوفمبر، وموضوعيا تأجيلها إلى بداية العام 2025، إلى حين ترتيبات الإدارة الجديدة أي كانت ترامبية أو هاريسية.
تأجيل بحث وقف حرب غزة أو التوصل لهدنة مؤقتة، بعيدا عن زمنها، رغم وجود مقترحات مختلفة، لكنها لم تجد سبيلا للتنفيذ، ما يؤكد بلا ارهاق فكري، انه لا يوجد عامل قوة واحد يمكنه أن يفرض مسار "التهدئة"، فيما لم يصل إلى وقف الحرب بكاملها، ومنحت دولة الاحتلال زمنا مضافا لتغيير ملامح قطاع غزة، ضمن مخططها الخاص، وبما يتوافق ورؤيتها للقادم السياسي.
ترك قطاع غزة دون هدنة أو تهدئة، في وقت المسارعة لتهدئة وحل على الجبهة اللبنانية، هو الكاشف الأبرز، ان الولايات المتحدة هي من يدير لعبة "الحركة السياسية"، رغم ما بدأ كشكل من أشكال "التمرد الحكومي الإسرائيلي"، لكن ذلك انكشف كاملا في المسألة الفارسية، وامتدادها اللبناني، عامل قوة كان حاضرا في التفاوض ومآله السياسي، وهو ما لم يكن له مقابل في قطاع غزة.
بالتأكيد، غياب "المفاوض الفلسطيني" الموحد كما في لبنان، وإصرار حماس على تفردها، رغم تبيان ضرره الكبير، بل واستغلاله سلبا للهروب من فرض مسار حل أو حل ما، فيما غابت الرسمية الفلسطينية بشكل كامل، عدا مناشدة هنا أو هناك، لا تترك أثرا في معركة مفصلية لمشروعين متناقضين، بعدما أدركت دولة الفاشية اليهودية أنها أمام "فرصة تاريخية" بفرض واقع جديد لتكريس "إسرائيل الموسعة" على حساب تضييق "الكيانية الفلسطينية" إلى الحد الأدنى وتقسيمها بشكل مستحدث.
في لبنان، وقفت فرنسا بكل ما لها قوة ومكانة دولية، مع لبنان بلا تردد، واحتضنت مؤتمرا عالميا خاصا، كان رسالة واضحة بأنها لن تكون طرفا "محايدا"، وفتحت معركة كلامية مع حكومة نتنياهو غير مسبوقة بينهما، رسالة لم تكن موجهة لتل أبيب فحسب، بل ولواشنطن ذاتها، فكان عامل تأثير إيجابي لمسارعة وضع نهاية لحرب تدميرية في لبنان، وفتح الباب لحل سياسي لن يكون كما كان قبل الحرب.
في حرب غزة، غابت أي قوة تأثير حقيقية، تلعب ذات الدور الفرنسي، لا عربيا ولا غربيا، رغم التعاطف الكبير في إسبانيا والنرويج وإيرلندا وغيرها، بل وبيانات بريطانية حملت "عاطفة سياسية" جديدة لفلسطين، لكنها فقدت قوة التهديد كما كانت فرنسا في لبنان.
دون النيل من الحراك الرسمي العربي، وقرارات الوزاري والسداسي، ولاحقا مؤتمر التحالف العالمي لتنفيذ حل الدولتين في الرياض، لكنها "فعاليات إعلامية" ضجيجها لا يصل أبدا لمسامع دولة الكيان، ولا يمثل لها أي ضرر واقعي، ويمكن اضافتها لما صدر من قرارات قمة الرياض نوفمبر 2023 وقمة البحرين 2024، وغيرها من بيانات مجالس عربية مختلفة، كونها خلت من أي خطوة تهديد واحدة يكون لها حسابا، بل ربما العكس حدث.
موضوعيا، يمكن القول راهنا إن قطاع غزة ومصيره، أرسل إلى "سوق النخاسة السياسية"، سيتم التعامل مع ترتيباته المستقبلية وفقا للتعديلات الجوهرية التي أحدثتها حرب الإبادة الجماعية، بعدما ضمنت دولة الفاشية اليهودية غياب كل عوامل الفرض الممكن عليها.
واقع سياسي "جديد" ينتظر قطاع غزة "جديد"، قد يكون خاليا كثيرا من مكونات ما قبل 7 أكتوبر 2023، لتأكيد أن ما قبله لن يكون أبدا ما بعده، بعيدا عن رسائل الكلام الغبية التي تنطلق من التائهين وطنيا.