- إطلاق نار من طائرات الاحتلال "الأباتشي" شمال شرق البريج وسط قطاع
"لا تموت الأمم قتلاً، وإنما تموت انتحارًا"، هكذا يدفع المؤرخ والفيلسوف البريطاني أرنولد توينبي نحو قناعة مركزية هي نتاج تأمله في مجريات تاريخ الأمم، مفادها أن الأمم لا تنهار بفعل عامل خارجي بقدر تأثير العوامل الداخلية.
فهي التي تدمِّر نفسها بنفسها، وذلك حين تنغمس في صراعات لا طائل منها بين مكوناتها متناسية تحدياتها المصيرية وعدوها الحقيقي، فهو قانون صارم من شأنه أن يسري على كافة الأمم التي تستسلم لإغواء صراعاتها الداخلية.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى حين تفقد تلك الأمة الرؤية الشاملة لحقيقة التحديات التي تجابهها وسبل الاشتباك الواعي والمدروس معها عبر بناء السيناريوهات المستقبلية لإدراة الصراع ومن ثم تجاوز تلك التحديات.
ومن دون شك فالتحدي المصيري أمام الفلسطينيين هو في الخلاص من هذا الاحتلال الصهيوني، ذلك الاحتلال الأكثر بشاعة على مدار التاريخ الإنساني.
وتلك المقالة هي في حقيقة الأمر مقالة تأسيسية، إذ عبرها ستجري المحاولة على رسم خريطة إدراكية بانورامية وشاملة للمسارات التي نعتقد أنه يجب أن يتبعها النضال الفلسطيني ضد الكيان الصهيوني والصهيونية العالمية.
تلك الخارطة التي يتحتم أن تكون محفورة في ذهن وقلب ووجدان كل فلسطيني وعربي ومسلم، بل وكل فرد في هذا العالم يسعى لمناصرة الحق في وجه القوة، والقيمية ضد النفعية، والإنسانية التراحمية ضد المادية الأداتية المتسلحة بنزعة شيفونية عنصرية.
إن الغوص في أكثر مستويات التحليل عُمقاً هو أمر من شأنه أن يخبرنا أن تلك الخارطة التي نحاول بلورة ملامحها هي عبارة عن ثالوث، إذ أن أضلاعه مكونة من ثلاثة مسارات "الهوية، الوحدة، التحرر".
بل إن كل مسار منها ينقسم هو الآخر وبالضرورة لثلاثة محاور فرعية، وتلك المسارات هي:
المسار الأول: مسار الحفاظ على الهوية.
تلك الهوية التي لو تمكن الصهاينة من طمسها لتبخرت القضية الفلسطينية في الهواء، من هنا يمكن أن نفهم الجهود الضخمة التي يبذلها الكيان الصهيوني في هذا المضمار، ومن هنا مركزية هذا المسار في النضال الفلسطيني.
ويدور هذا المسار في ثلاثة محاور:
المحور الأول: تعميق المكون الفلسطيني للهوية الفلسطينية.
المحور الثاني: تعميق المكون العربي للهوية الفلسطينية.
المحور الثالث: تعميق المكون الديني للهوية الفلسطينية.
فتلك المكونات الثلاثة "الفلسطيني/العربي/ الديني"، إذا ما حَسُن بلورتها، هي ما ستحفظ الهوية الفلسطينية حاضرة وقوية ومتألقة ضد المحاولات الصهيونية الخبيثة لطمسها، فسلاح الهوية هو وبحق السلاح الذي يخشاه الصهاينة أكثر من أي سلاح آخر.
المسار الثاني: مسار الوحدة.
ويدور في 3 محاور:
المحور الأول: الوحدة بين الفصائل الفلسطينية.
وذلك بتياراتها الدينية والقومية واليسارية واللبرالية وغيرها، عبر رأب الصدع والانقسام الحادث على الساحة الفلسطينية.
فإذا ما تأسس وعي جمعي فلسطيني لديه قناعة بأن مركز الأنا هو بالضرورة في الآخر، ومن ثم اتخذ كل طرف خطوة باتجاه الآخر من منطلق وحدة الهدف ووحدة المصير، ومن ثم إعادة ترتيب الأولويات الوطنية تأسيساً على تلك القناعة، في تلك اللحظة سنكون على أعتاب مصالحة شاملة.
المحور الثاني: الوحدة مع الفلسطينيين داخل الكيان الصهيوني.
وذلك عبر بناء جسور التواصل معهم ومساندتهم في جهودهم للتصدي لمحاولات الأسرلة التي تجري بحقهم، وبلورة كفاحهم لأجل فضح الديمقراطية الصهيونية كنظام عنصري إجرامي لا يمت للإنسانية بصلة، فهي ديمقراطية الصهاينة وحدهم أو ديمقراطية المافيا كما كان يُحدثنا الدكتور المسيري.
المحور الثالث: الوحدة مع فلسطيني الشتات.
عبر التواصل الفعال معهم، فهم المخزون الحقيقي للقضية الفلسطينية، كما أنه لو حسن توظيف دورهم لتمكنوا من نشر الرواية الفلسطينية "رواية الحق" عن هذا الصراع في شتى بقاع المعمورة.
والحقيقة أنه من دون تلك الوحدة على المستويات الثلاث؛ سيكون عسيراً جداً إنهاء هذا الاحتلال بالكيفية التي نريدها، بل إن استمرار الانقسام والتشرذم سيقود لمزيد من الإخفاق ومن ثم السقوط.
ومن ناحية أخرى فالكيان الصهيوني يعمد إلى توظيف ذلك الانقسام ضدنا عبر الترويج لأنه لا جدوى للانخراط في سلام حقيقي مع الفلسطينيين بذريعة أنه لا يوجد طرف محدد للتفاوض معه، ولا يوجد من يتحدث باسم جميع الفلسطينين، وإنه إذا انسحبت قواته من الأراضي المحتلة سيحدث اقتتال داخلي، وللأسف هناك من يُصدِّقهم في هذا العالم.
المسار الثالث: مسار التحرر
الملاحظة المركزية هنا أنه علينا أن ندرك أن هذا المسار لن يتحقق من دون تحقق المسارين السابقين "مسار الحفاظ على الهوية، ومسار الوحدة".
ويدور هذا المسار في 3 محاور:
المحور الأول: التحرك على الصعيد الفلسطيني.
عبر بذل الجهود الممكنة من أجل التحرر، على كافة الأصعدة: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وإعلامياً وعلميا، بل والمقاومة الفاعلة على الأرض.
المحور الثاني: التحرك على الصعيد العربي والإسلامي.
عبر استنهاض العالمين: العربي والإسلامي للدفاع عن القضية الفلسطينية وممارسة ضغوط حقيقية على الكيان الصهيوني.
المحور الثالث: التحرك على الصعيد العالمي.
عبر التواصل الجاد مع كافة المؤسسات الدولية الرسمية، وغير الرسمية، لمساندة الحق الفلسطيني، ومطالب التحرر كحق أصيل نادت به كافة المواثيق الدولة.
كذلك التواصل مع الجهات الإنسانية، واستنهاض الحقوقيين ودعاة الإنسانية في العالم من كافة الأعراف والديانات والجنسيات من أجل تلك الغاية.
وفي التحليل الأخير فتلك هي المسارات الثلاث(المنقسمة لمحاور تسع) التي يتحتم اتَّباعها في آن، بكل جدِّية وإخلاص، إذا ما أردنا نهاية قريبة لهذا الاحتلال الصهيوني.
شريطة توظيف الدراسات العلمية الجادة وبناء الخرائط الذهنية والسيناريوهات المستقبلية، وكذلك توظيف الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي بكثافة في معركتنا تلك بشكل مخطط وممنهج وبجودة وكفاءة عالية دون الارتجال والعشوائية التي سبق وأن أدرنا بها هذا الصراع.
وكنا في مقالات سابقة قد عمدنا إلى بلورة ملامح خريطة إدراكية لمجمل الصراع العربي الصهيوني ككل وديناميكية المشروع الصهيوني وآليات تحركه ومسارات تمدده، نقاط ضعفه ومكامن قوته، ومن ثم سبل الاشتباك معه بالتفكيك والمواجهة ومن ثم التقويض.
وفي عدة مقالات قادمة سنحاول سبر أغوار وتعميق أطروحات كل محور من تلك المحاور التسع بإذن الله.