- إطلاق نار من طائرات الاحتلال "الأباتشي" شمال شرق البريج وسط قطاع
قبل ثلاثة أسابيع، عقدت جمعية التربية الوطنية الأميركية، وهي أكبر نقابة للمعلمين في الولايات المتحدة الأميركية وتضم حوالي ثلاثة ملايين معلم، مؤتمرها السنوي الذي حضره الرئيس الأميركي جو بايدن. كان هناك، من بين جملة المشاريع التي قدمت للتصويت، مشروعان يتعلقان بفلسطين، أحدهما يعتبر إسرائيل دولة فصل عنصري، والآخر يعترف بدولة فلسطين. لم ينجح القراران ولكن النسبة التي حصلا عليها تدعو للتفاؤل.
قبل عامين أيضًا، وفي نفس النقابة، تم إسقاط المشروعين ولم يحصلا سوى على 8% من الأصوات، لكن في مؤتمر تموز 2021 حصلا على 25%، أي ربع المصوتين الثمانية آلاف الذين حضروا المؤتمر كممثلين. وتكمن قيمته في أن ربع الحضور صوتوا إلى جانب المشاريع، ليس فقط في التطور الذي حصل خلال عامين من 8% إلى 25%، بل بحجم الضغوطات التي مورست من قبل أعضاء الكونغرس وسفارة إسرائيل، وعمل واحدة من كبريات شركات العلاقات العامة التابعة للوبي إسرائيل، وهي شركة «قف معنا» التي قادت الحملة لإسقاط القرارين.
لو نجح القراران لكان هذا زلزالاً كبيراً؛ لأن نقابات كثيرة كانت ستتبعه وستشكل ضغوطاً على النظام السياسي الأميركي، كما وصف الحدث المفترض أبرز النشطاء الفلسطينيين هناك، والذين يقفون على رأس الحملة. لكن الجهود ستستمر في ساحة اعتبرت الحاضنة الأولى لمشروع إسرائيل في العقود الأخيرة، وهي الساحة التي بدأ الصراع بين الفلسطينيين ومؤيديهم من الجاليات الأخرى، والسود والمظلومين وحتى اليهود التقدميين، وبين إسرائيل يأخذ طابع الاشتباك اليومي وبالتفاصيل.
لكن أخيراً نجحت واحدة من الحملات التي تنشط هناك بإقناع شركة البوظة «بن آند جيري» بوقف العمل في المستوطنات، وهي أول شركة أميركية تغامر بهذا الشكل في بيئة اعتبرت لسنوات محسومة تماماً لصالح إسرائيل، بل كان التنافس فيها في القطاعين العام والخاص على التودد لإسرائيل وإرضائها؛ نظراً لنشاط اللوبي الإسرائيلي وإمكانياته وقدرته على التأثير، وحتى اختيار وإنجاح أو إسقاط أعضاء الكونغرس.
بعد قرار الشركة بدت ردود الفعل الإسرائيلية أشبه بهستيريا اجتاحت إسرائيل، ومن تابع ردود الفعل يلمس أن الأمر بالنسبة لتل أبيب أشبه بالأمن القومي لا بعمل تجاري أو سياسي، فبيان رئيس الوزراء نفتالي بينيت اعتبر قرار الشركة «معادياً لإسرائيل»، وكذلك حديثه مع مدير شركة يونيليفر المالكة لشركة بن آند جيري، حيث قال: إن الدولة ستتصرف بحزم ضد أي عمل مقاطعة، فيما كانت أيليت شاكيد وزيرة الداخلية تزور مصنع المثلجات وتشن هجوماً على الشركة، متهمة إياها بالعمل للمنظمات الإرهابية والمعادية للسامية.
وزير الخارجية يائير لابيد، الذي اعتبر قرار الشركة «استسلاماً مشيناً لمعاداة السامية ولحركة المقاطعة وفرض العقوبات ضد إسرائيل»، أوعز لسفيره في الولايات المتحدة جلعاد أردان بمراسلة حكام الولايات والطلب منهم معاقبة الشركات أو المؤسسات التي تدعو لمقاطعة المستوطنات، وقد وجّه أردان رسالة لحكام ولايات لديها تشريعات بمحاربة حركة المقاطعة، وكان في رسالته ما يدعو للسخرية؛ حيث جاء في بعض سطورها «نظراً لوجود فلسطينيين يتسوقون ويعملون في نفس محلات السوبرماركت التي يتسوق ويعمل بها الإسرائيليون في الضفة الغربية، فإن هذا القرار سيؤثر عليهم». أردان يريد أن يقنع الأميركان بأنه لا مشكلة في سرقة أرض الفلسطينيين والاستيطان عليها، لكن مشكلتهم إذا حرموا من البوظة.
هناك 35 ولاية لديها تشريعات محاربة من يدعو لمقاطعة إسرائيل، وهي التي خاطبها أردان، لكن ولاية فيرمونت التي يقع بها مقر شركة «بن آند جيري» ليست لديها قوانين، وينبغي القول: إن الشركة وصلت لهذا القرار بعد عمل منظم وحملة استمرت عشر سنوات، قادها نشطاء نشطوا في تلك الولاية تحت اسم «فيرمونتيون من أجل العدالة»، كان آخر نشاطاتهم البيان الذي أصدروه في العاشر من حزيران الماضي، والذي تساءلوا فيه إلى متى ستستمر «بن آند جيري» بدعم الاحتلال والأبارتهايد، ودعوها إلى تغليب الأخلاق في العمل.
من الواضح أن معركة إسرائيل لم تنته، فرئيس وزرائها وفي رده على قرار الشركة، قال: إن حكومته ستتصرف بحزم، أما وزيرة داخليته فقالت: إن إسرائيل ستفعل كل ما بوسعها في المجالات القانونية والاستهلاكية، أي أن إسرائيل ستبدأ حملتها وضغطها على الشركة للتراجع. إسرائيل لم تخسر فقط لأن واحدة من شركات البوظة التي قررت وقف نشاطها في المستوطنات على أهميته، بل فهمت كما هو طبيعي أن هذا أول اختبار لصراع السياسة والإرادة الذي يتجسد بين نشطاء إسرائيل وفلسطين في الساحة الأميركية، وأن شركات أخرى ونقابات أخرى ستلتحق بالشركة المقاطعة، وهذا يعني أن جبل الجليد الذي تختبئ خلفه إسرائيل سينهار، لذا ستقاتل بكل ما تملك من قوة ضد شركة «بن آند جيري» لدفعها للتراجع.
وفيما بدأت محلات تجارية يهودية في أميركا إخلاء رفوفها من منتجات الشركة، بدأ النشطاء الفلسطينيون ومؤيدوهم حملة دعم للشركة وتسويق وترويج لمنتجاتها. فالذي يدور هناك صراع حقيقي، وعلى الفلسطينيين إثبات أن الشركة لم تخسر تجارياً بعد مقاطعة المستوطنات. وحبذا لو كانت النتيجة أن تكسب أكثر وهذه مسؤولية كل الفلسطينيين وجالياتهم والعرب ومؤيديهم، فالمسألة ليست استهلاك سلعة معينة، بل شركة ستشكل النموذج الذي تراقبه كل الشركات الآن، ومهم إنجاح هذا النموذج بأي شكل، خاصة أن هجمة مرتدة من إسرائيل ستكون هائلة.
الهجوم الإسرائيلي على حملات المقاطعة يرتد على إسرائيل؛ التي تصرفت بعنجهية لا مثيل لها؛ في ظل تزايد حملات المقاطعة في الولايات المتحدة، أو كما وصفها أحد أبز النشطاء بأنها تطلق النار من رشاش العوزي على جيش النمل الآخذ بالتوسع. فقد اعتبرت المقاطعة جزءاً من الحريات الفردية والجماعية، وهذه صميم الثقافة الأميركية، وإن حملات إسرائيل تضاربت مع الثقافة الأميركية، بل وتعتبر إهانة ومساساً بالقيم التي قامت عليها الولايات المتحدة. وهنا كانت كلمة السر في انقلاب السحر على الساحر الذي أراد خداع جمهور يؤمن جيداً بعقله وحريته بعد انكشاف الساحر على المسرح، لكن الأهم كيف تكسب شركة البوظة مالياً بعد المقاطعة. هذا تحد للفلسطينيين. صحيح أن المعركة صغيرة، لكن نجاحها سيذيب جبل الجليد.
الأيام