الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب أنعم مؤخراً على رئيس وزراء كندا، ترودو، بلقب «حاكم كندا»، هدد بضم قناة بنما، وبفرض تعرفات جمركية عالية على البضائع الصينية والأوروبية والمكسيكية والكندية، وتوعد غزة الصابرة الأبية بالجحيم، ولوّح باستعداد بلاده لشن ضربات عسكرية على المواقع النووية الإيرانية، يُظِهر نفسه دائماً أمام دولة الاحتلال على أنه خادم وحارس أمين لها ولمصالحها بطريقة تثير الشفقة.
يقال بأن الرئيس بل كلينتون أزبد وأرعد وضرب قبضته على الطاولة عندما انتهى أول لقاء له مع نتنياهو العام 1996 قائلاً «من هو رئيس الدولة العظمى هنا: أنا أم هو». كلينتون كان مستاء من سلوك نتنياهو معه أثناء الاجتماع حيث تعامل معه كتلميذ مدرسة، وألقى عليه محاضرة طويلة عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وعن الطريقة التي يجب أن تتصرف بها الولايات المتحدة تجاه هذا الصراع.
رويداً رويداً، أدرك كل ساكن جديد للبيت الأبيض حدود قدرته على مواجهة إسرائيل. فهو قادر على معاقبة أو مهاجمة أو تحدي أي دولة في العالم، باستثناء إسرائيل التي يجب عليه أن يقدم لها يمين الولاء والطاعة العمياء.
كلينتون نفسه صاحب مقولة «من هو رئيس الدولة العظمى هنا» خرج بعد مؤتمر كامب ديفيد العام 2000 لِيحمّل الفلسطينيين مسؤولية فشل المفاوضات، رغم تعهده للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بعدم القيام بذلك.
الرئيس بوش الابن طالب من شارون الانسحاب من مناطق «ألف» التي احتلها إسرائيل بعد اجتياحها لها العام 2002، قائلاً بأن عليه القيام بذلك فوراً، لكن بعد أقل من أسبوع أدرك حجمه الحقيقي وصمت مثل القبور. ثم بعد ذلك بعدة أشهر تبنى الموقف الاسرائيلي كاملاً بضرورة رحيل الزعيم الفلسطيني عرفات حتى يكون هنالك «شريك فلسطيني حقيقي مُحب للسلام».
الرئيس أوباما، الأستاذ الجامعي والحقوقي السابق، اعتقد في العام 2012 ان بإمكانه أن يفرض على إسرائيل وقف الاستيطان في الضفة الغربية بما فيها القدس، وعندما فشل، بلع الإهانة وانتظر حتى نهاية ولايته الرئاسية الثانية ليسمح بتمرير قرار من مجلس الامن يدين الاستيطان في الضفة ويؤكد على عدم قانونيته. لكن الحقيقة أن الرجل عود نفسه على بلع الإهانات المتلاحقة له من دولة الاحتلال بما في ذلك خطاب ألقاه نتنياهو في الكونغرس الأميركي العام 2016 هاجم فيه رئيس الدولة التي استضافته لموافقته على الاتفاق النووي مع إيران. التصفيق الحاد له في الكونغرس الأميركي الذي لم يصادق على الاتفاق النووي مع إيران، أظهر من هو الرئيس الفعلي للبيت الأبيض.
الرئيس ترامب اختصر الطريق. فلقد دخل البيت الأبيض وهو على يقين أن أي صراع مع إسرائيل سيخرج منه خاسراً. لذلك بدلاً من أن يجادل إسرائيل ويخرج بسواد الوجه، كانت سياساته أن يُقدم لإسرائيل أكثر مما تطلب، وبالتالي يظهر هو كمن يُملي وقع وتتابع الاحداث والسياسات المتعلقة بإسرائيل في صراعها مع الفلسطينيين. لذلك قام بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبإغلاق القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، دون ان تطلب إسرائيل ذلك منه بشكل مباشر، وقام بقطع المساعدات عن الأونروا، واعترف بضم إسرائيل للجولان السوري، وانسحب من الاتفاق النووي مع إيران كما أرادت إسرائيل، وقام بعقد الاتفاقيات الإبراهيمية لحسابها، وهو من قدم أسوأ عرض سلام للفلسطينيين منذ بداية مشاريع تقسيم فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي.
الرجل يُدرك صِغر حجمه أمام إسرائيل، لذلك لا يدخل في جدال معها، ويتقدم عليها دائما بخطوات حتى يقال عنه بأنه من يقود ويقرر بشأن منطقة الشرق الأوسط. لكن ذلك بالطبع لا يمنعه من التذكير بأنه الرئيس الأميركي الوحيد الذي قدم لإسرائيل أكثر مما طلبت، وهذا بحد ذاته اعتراف بضآلة حجمه وموقعه أمام أصحاب القرار الفعليين في كل شيء يتعلق بإسرائيل.
الرئيس بايدن مشى على خطوات سلفه ترامب، لكنه لا يمتلك نفس «الذكاء والإيغو». بايدن اعتقد أن كل الدعم العسكري والمالي والسياسي الذي قدمه لدولة الاحتلال، في مرحلة هي الأصعب في تاريخها، سيشفع له لمطالبة إسرائيل بوقف الحرب وإجراء تبادل للأسرى. لكن الأخيرة ذَكرته دائماً بأن الخدمات لها يجب أن تكون بلا مقابل، لذلك أظهرت إسرائيل الحجم الحقيقي لبايدن؛ رئيس ضعيف لا يجب أخذ تصريحاته ومبادراته على محمل الجد.
ربما يقول بايدن في نفسه «أين ستجد إسرائيل رئيساً أميركياً أفضل منه يُقدم لها أكثر من 22 مليار دولار في سنة واحدة، ويملأ مخازنها بالسلاح كلما فرغت، ويعادي العالم أجمع من أجلها» لكن واقع الحال يقول بانها ستجد وأنها فعليا قد وجدت.
يعود ترامب للبيت الأبيض مُسلحاً بفريق شرق اوسطي خادم وتابع لدولة الاحتلال، مليء بالحقد على الفلسطينيين والعرب. لكن ماذا بإمكان هذا الفريق أن يُقدم لإسرائيل أكثر مما قدمه بايدن؟
دعونا لا نتوهم. يوجد دائماً المزيد مما يُمكن ان يقدمه أي رئيس أميركي لإسرائيل: ترامب سيقدم لها شيكاً على بياض لضم أية مناطق في الضفة الغربية ترغب بها إسرائيل، سيتركها تقرر لوحدها مُستقبل غزة، وسيعمل فريقه على تنفيذ سياساتها، سيحاول فرض التطبيع على الدول العربية التي لم تطبع معها، سيسمح لها بالبقاء في الأراضي السورية التي احتلتها وفي الأراضي اللبنانية أيضاً إن أرادت ذلك، وسيطلب من جيشه واستخباراته المشاركة في أية هجمات عسكرية أو اغتيالات في ايران تقررها إسرائيل.
لكن كل ذلك بالطبع لا يجعل من ترامب رئيساً لدولة عظمى، ولكن مُجرد تابع صغير يقوم بخدمة سيده في تل أبيب.