- صافرات الإنذار تدوي جنوب الجولان خشية تسلل طائرات مسيّرة
ما يميز الخطاب العربي الرسمي أنه خطاب ينحو إلى التكيّف والتعايش مع الهزائم والاحتلالات والمذابح المختلفة. إنه خطاب من السعة والمرونة والاحتيال بحيث يستطيع أن يقلب الحقائق ويزور الوقائع، ما يدفع إلى القول إن الخطاب المتكيّف عادة هو خطاب كاذب ومخادع ومشبوه، لا يقرأ الواقع من جهة ولا يفسّره ولا يحلّله من جهة أخرى، لذا فإن الخطاب المتكيف عادة ما يكون تلفيقياً وتوفيقياً بطريقة مثيرة للشفقة أو الضحك أو البكاء أو كل هذا الأمور مجتمعة. يظهر التلفيق في هذا الخطاب من خلال تقديم نماذج متعددة المرجعيات ومتناقضة الأيديولوجيات، إلى درجة أن هذا الخطاب يحتمل كل شيء في ذات الوقت. ومن العجيب أن مثل هذه النماذج تقدم إلى الجماهير دون إحساس بالذنب أو الخطأ أو تبكيت الضمير، ومن العجب أيضاً أن يقوم على تقديمها رجل الفكر والدّين والإعلام ورجل السياسة، لتشكيل فضاء سياسي ثقافي ناظم يكتسب شرعية بفعل قوة الروافع والمضخات الرسمية، ومن يتطوع معها إغواءً واغراءً ورغبة منها في الاندماج والكسب. وإذا كان التلفيق صفة الخطاب فإنه ينسحب على كل أمر آخر، فالتعليم يتراوح بين التلقين والتقليد وادعاء الإبداع والبحث، وتخطيط المدينة يضطرب ما بين العشوائية والتخطيط، وحتى العلاقة مع الجماهير، حيث تغيب الرؤية النهائية للتعامل مع الجمهور، فالديمقراطية إدعاء براق يستخدم حسب مقاييس ومعايير تكرس القمع، أو يعاد إنتاجها بطريقة غاية في الخداع والاحتيال، بحيث تتحوّل الديموقراطية - كمفهوم غربي له عراقة وتقاليد- إلى سلوك سياسي مخادع يتم من خلاله تثبيت مراكز القوى إياها، وهكذا يتحول مفهوم الديموقراطية إلى سيف يذبح حامله. الديموقراطية بالذات هي الوصفة الناجعة من أجل التفتيت والتفكيك بدلاً من أن تكون مفهوماً وأداة للاستقرار السياسي والاجتماعي، ذلك أن تلفيق المفهوم يؤدي إلى تلفيق التطبيق وبالتالي تلفيق النتائج.
ويظهر التوثيق في خطابنا الرسمي عندما يساوي بين الأخطاء، ويمارس عملية إيهام حقيقية بحيث تنتفي الفروق بين الأفعال وبين الرجال وبين الأفكار، وعندما تتم التسويات على قاعدة عمومية غامضة، وحين تغيب المحاسبة والمكاشفة، وحين تحل المشكلات بطريقة عشائرية يستوي فيها الخطأ والصواب إلى درجة أن يتساوى الدم بفنجان القهوة، وهو أمر يتكرر في السياسة، حيث تتحول الأوطان إلى عقارات وليست رمز كرامة وعزّة.
الخطاب التوفيقي هو خطاب مضحك وبائس في ذات الوقت، لأنه لا يبحث عن الإقناع بقدر رغبته في السلامة والتسويات التي لا تصح، هذا الخطاب لا يبحث عن الشرعية بقدر بحثه عن الإجماع المصطنع مهما كلف الثمن.
إن الخطاب المتعايش والمتكيف مع الهزيمة والمجازر مستعيناً في ذلك بالتأليف والتلفيق، هو خطاب أزمة بامتياز، هي أزمة التعامل مع الواقع، أزمة السؤال والتحدي، أزمة الهوية، أزمة الشرعية، وأزمة التنمية. هو خطاب أزمة لأنه خطاب تعايش مع الهزيمة، وهو خطاب تعايش مع الهزيمة لأنه خطاب أزمة، ولا يمكن تجاوز كل ذلك إلا بتجاوز الأزمة عن طريق رفض الهزيمة. إن صنع النصر والاستعداد له والتهيؤ لأسبابه وإنضاج ظروفه وشروطه هي عملية طويلة ومضنية ومجهدة، ولأنها كذلك، فإنها كفيلة بأن تفرز الخبيث من الطيب، الحقيقي من الزائف، عملية النصر بحد ذاتها عملية تنظف وتطهر وترمم، عملية النصر عملية لا تلفيقية ولا توفيقية، النصر انحياز حقيقي باتجاه مكان القوة الأصلية ومصادر الطاقة التي عادة ما تغيب في خطاب الأزمة أو تُشَوه. وخطاب النصر واضح وبسيط، حتى شعاراته بسيطة وواضحة ومتواضعة، لا تقفز عن الواقع ولكنها تحلم بتغييره، ولا تزور الواقع ولكنها تطلب الانقلاب عليه. حتى لغة النصر، فهي لغة دقيقة لأنها تعرف ثقل الأثمان التي دفعت من أجل النصر، وهي لغة متواضعة لأنها تعرف معنى الوحدة وصعوبة العمل الذي تم إنجازه. وعلى عكس لغة التلفيق والتوفيق، التي فيها من الادعاء ما فيها، فإن لغة النصر مختصرة وتذهب مباشرة إلى مقاصدها وتسمي الأشياء بأسمائها.
ونقول هذا الكلام كله، من أجل أن نقول إن خطابنا الرسمي الذي يتعايش ويتكيف مع الهزيمة، يستبعد كلياً خيار تحرير القدس، أليس هذا غريباً؟! أليس عدم الكلام عن التحرير تعايشاً مع الهزيمة وتكيفاً معها وقبولاً لها؟! عندما نتحدث بلغة لا نؤمن بها ولا نصدقها، تتحول هذه اللغة إلى خيوط مرنة ولكنها غليظة وطويلة، حتى تكفي لتأليف حبكات ينقصها الصدق والصراحة والجرأة. وعندما لا نتحدث عن تحرير القدس التي تؤلف جوهر إيماننا فإننا نقوم بخيانة ما أو ما له طعم الخيانة، وعندما نقوم بتجميل الهزيمة أو التعايش معها، فإننا نخون حتى لغتنا. يجب الاعتراف بأننا مهزومون، وهو اعتراف لا يدعو إلى جلد الذات بقدر استنهاضها، ولا يدعو إلى الإحباط بقدر الدعوة إلى فتح العينين إلى آخرهما لقراءة الواقع كما هو لا كما نريد أو كما نحلم.
إن الاعتراف بالهزيمة خطوة أولى من خطوات الاعتراف بالواقع، فأوضاعنا ليست بخير، ومجتمعاتنا ليست بخير، وحكوماتنا ليست بخير، وثرواتنا ليست بخير. المشكلة هنا أن هذا الكلام يكاد يكون مكروراً ومبتذلاً، ويعرفه القاصي والداني، كلنا يعرف أن فلسطين محتلة وتباد، دون أن يرمش للعالم جفن! وأن أراضي عربية كثيرة أخرى تعاني احتلالاً بشعاً ومدمّراً، ويكاد بعض هذه الاحتلالات يتحول إلى واقعٍ لا يمكن حتى نقاشه، وهذا ما يؤلم على المستوى الشخصي إلى أبعد الحدود. قطاع غزة يُمحى عن الوجود، والقدس تهوّد بوتيرة سريعة إلى درجة قد تتحول فيها الأوضاع إلى الحال الذي تعيشه سبته أو الإسكندرون. لا نريد فراديس مفقودة أخرى، ولا نريد أندلساً جديدة، لا نريد أن تكون الأمّة التي تتعود الصفعات، لأن العادة والتعود تطبيع من نوع آخر. لا نريد أن نكون الأمّة التي ضحكت من جهلها الأمم. أقول ذلك بدواعي الفخر الديني والقومي، وأقول ذلك باعتبار أن لنا رسالة حملناها ونشرناها وكانت خيراً على كل البشرية. وبعيداً عن استعراض تاريخي لعالمنا العربي منذ بدايات القرن الماضي وحتى يومنا، فإن أسباب هزائمنا المختلفة في الحرب والفكر والتنمية وبناء مجتمعات صحية، لم تتجاوز سببين؛ أن عدونا قوي ومستعد وشره وصاحب خبرة طويلة، وأننا لم نكن على مستوى المواجهة، لم تكن هزيمتنا هزيمة طبقة أو فكر أو شخص أو جهة أو حزب أو فصيل، كانت هزيمة أُمّة كاملة.بالمناسبة، فإن أيامنا هذه، تشهد احتلالات وحصارات وهجومات وقصفا وهولوكست مفتوحاً واستباحة لغير عاصمة من العواصم العربية، ولا نتحدث هنا عن القدس فقط، وبالمناسبة أيضاً، فإن عالمنا العربي في أيامنا هذه يشهد أسوأ فترات هزائمه، فالهزيمة وصلت إلى أن تسلب حتى إرادة الرغبة في الاحتجاج أو الاستنكار أو الانفكاك من هذا الوضع! وأقول أسوأ فترات هزائمه لأن بعضنا صار يحارب بعضنا الأخر من أجل عدونا جميعاً، أي إننا وصلنا إلى وضع صرنا نموّل فيه حروب عدونا. وهذا من العجب العجاب.
إن تجاوز خطاب الأزمة لا بد له من مثال أو نموذج حي يستطيع ملء الفراغات وتقديم محتوى نظري وعملي للفكرة. كل الأفكار عظيمة دون تطبيق، وكل الأفكار قابلة للنقد عند تطبيقها، وبسبب الأزمة وما تجر من خيبات وعثرات فقد كان لنا ثلاثة نماذج قدم كل منها محاولة ما لتجاوز الأزمة. النموذج الأول كان جمال عبد الناصر، الذي تهيأت له من الظروف ما لم يتهيأ لأي قائد عربي في العصر الحديث، إذ تحول عبد الناصر إلى رمز أسطوري، وعلقت عليه الآمال والأحلام، ومستفيداً من الظروف الدولية والمزاج الشعبي في العالم الثالث على الأقل، فإن عبد الناصر حاول أن يكون الحاضنة لثورات العالم العربي وما جاوره وصولاً إلى كيانية موحدة بشكل ما. وبغض النظر عن جدلنا مع الناصرية واخطائها وانجازاتها إلا أن هذه التجربة تم ضربها ومن ثم حصارها وأخيراً تجفيفها. نحن هنا لا نريد تقييم التجارب والنماذج التي نقدمها، لأن هدفنا هو مصير تلك النماذج والمحاولات. النموذج الثاني كان صدام حسين، الذي أراد أن يصنع تنمية بالحديد والنار، وأراد أن يقدم تجسيداً حياً لنظرية العادل المستبد، والذي أراد أن يتقدم إلى الجمهور كأنه صلاح الدين وبسمارك في آنٍ معاً، ولكن هذه التجربة أو هذا النموذج تم استخدامه وحصاره وضربه ومن ثم القضاء عليه. النموذج الثالث هو الشهيد ياسر عرفات، الذي استطاع أن يؤسس لثورة اكتسحت العالم العربي على مدى عقود! ياسر عرفات الذي أراد أن يكون رمز الثوار ونهضة الشعوب، والذي أراد أن يكون ضمير العالم بعذابات شعبه، لم يحتمله الغرب أيضاً رغم كل شيء، فحاصره ومن ثم قتله. هذه نماذج ثلاثة تم ضربها بالقوة من قبل الغرب أو أدواته. هذا يعني أن هذه النماذج الثلاثة وبغض النظر عن حوارنا معها أو جدلنا حولها إلا أنها نماذج أرادت أن تتجاوز واقعها وسقوفها وشروطها. هل كانت مغامرة أكثر من اللازم؟ هل كانت حالمة أكثر من اللازم؟ هل كانت مخدوعة أكثر من اللازم؟ مهما كانت الإجابة، إلا أن الغرب لم يحتمل هذه النماذج حتى لو هادنت أو دخلت تسويات أو حتى تواطأت على نحو ما.
وبالاستقراء ليس إلا، فإننا نتوقع أن يكون النموذج الرابع مختلفاً عن حديدية صدام، وتوفيقية عبد الناصر، ومرونة عرفات، ونتوقع أن يواجه هذا النموذج صعوبات أكثر، لأن الغرب سيكون أكثر تنبهاً ويقظة، وسيواجه هذا النموذج منظمات غير حكومية لا تخضع للدولة، وخطاب تطبيع يقبل الهزيمة ويستغلها، وحكومات تخون شعوبها، واحتلالات مباشرة كثيرة، أكثر من الحالية.
نموذجنا الرابع هو "المقاومة" التي لن تتعايش مع الهزيمة لأن العيش مع الهزيمة موت محقق ومخزٍ، ولأن التكيف الذي يسمى تطبيعاً هو أكثر رداءة من الاستسلام، لأن الاستسلام لا يفترض القبول بالمحتل، أما التطبيع أو التكيف فهو القبول بالمحتل وجوداً ورواية ومصالح وأوهام.
نموذجنا الرابع المتفجّر الذي عصف بالعالَم سيرفض لغة الغموض والمرونة والفصاحة المزيّفة، لأنه يستعمل لغة بسيطة وواضحة وضوح الشمس، يقول فيها إن الاحتلال يجب أن ينتهي وان التعايش معه أو التكيف له، إنما هو إطالة لعمره ومشاركة في بقائه.
قد تطول المدة حتى يتحقق هذا النموذج أو يصل إلى أهدافه، لأن الغرب لم يعد يكتفي بإدارة الأمور من وراء البحار، الغرب صار يأتي إلى هنا ببوارجه، ويتواجد بين ظهرانينا، ولم يعد يطلب وكلاء سرّيين، بل صار من الوقاحة بحيث يطلب وكلاء علنيين يقبضون أجرتهم أمام كل الناس وأمام عدسات الكاميرا. لهذا قد تطول المدة التي ينتصر فيها النموذج الرابع المختلف.
ونقول تطبيع، هذا اصطلاح غير دقيق للقبول بالاستسلام، التطبيع هو التكيف مع الاحتلال ومع مصالح الاحتلال ومع حلم الاحتلال المتعدد والمختلف بتسميات كثيرة. عندما نقول تطبيع، فإننا عملياً نقول الرضا والخضوع والحياة تحت سقف القوي المحتل.
التطبيع هو مطلب القوي وليس مطلب الضعيف. ولهذا عادة ما يحشر الضعيف في زاوية الدفاع عن النفس وشرح الدوافع والأسباب، وبهذا يتحول الضعيف إلى ضحية لا يصدقها أحد ولا يحترمها أحد. خطاب الضحية الضعيفة خطاب أزمة حقيقية فهو لا يستطيع أن يقنع حتى نفسه، ولهذا كان التطبيع مطلب القوي لان هذا المطلب يتضمن ضمن أشياء أخرى قبول شرط القوي ومطالبه. والتطبيع هنا قبول رواية الآخر كما قيل، فإن رواية الآخر عن نفسه أرفع من أن تكون مطلب القوي هنا للضعيف، بل، وببساطة، فإن التطبيع المطلوب هو عدم الثورة وعدم الاحتجاج والقبول بالتحول إلى مجرد كائن حي، كل فضيلته أنه يخرس أمام المذابح ويستهلك الطعام ويخرجه.
خطاب الأزمة يقبل التطبيع ويرفضه، ذلك أن خطاب الأزمة يتجاور فيه كل شيء مع كل شيء آخر، وهذا من أشد الأمراض وأسوأها. والمحتل الذي يتابع ويدرس ويبحث، يعرف أننا في لحظات سوء حقيقي، ولهذا، فقد بلغ من الوقاحة والصلف والغطرسة أن يفرض معادلة مذلة تقول التطبيع مقابل لا شيء. إلى هنا نصل، أن يقبض المحتل الثمن مقدماً من أجل أن يعد بشيء قد لا يحصل لأي سبب. التطبيع بمعنى أسوأ من الاستسلام، من أجل أن يتوقف عن عمل غير قانوني وغير شرعي. إلى هنا يصل بنا خطاب الأزمة. والى هنا يصل بنا غياب النماذج