الكوفية:شكّلت حرب يونيو/حزيران 1967 محطة تطور جديدة في تاريخ إسرائيل في حينها، لجهة تعزيز مكانتها ودورها الوظيفي في "المشرق العربي"، مع تمكنها من هزيمة جيوش عدة دول عربية، مع تقويض صدقية أهم نظامين عربيين، "قوميين" و"تقدميين" (بحسب خطابات ذلك الزمان)، أي مصر وسوريا، وذلك في ظرف عدة أيام.
وقد نجم عن تلك الحرب النظر إلى إسرائيل كدولة قوية ورادعة، تشكل عامل استقرار، نسبة لضمان المصالح الغربية في الشرق الأوسط، لا سيما الأميركية، وذلك في زمن "الحرب الباردة" وصراع القطبين، الأميركي والسوفياتي.
وعليه، فمنذ ذلك الحين باتت إسرائيل بمثابة الحليف الاستراتيجي الموثوق للولايات المتحدة الأميركية، بإداراتها الجمهورية والديمقراطية، أكثر من أية دولة أخرى في المنطقة، تبعا لمقولة مفادها أنه ليس للغرب في الشرق أفضل من الغرب نفسه، أي إسرائيل، باعتبارها صنيعة وامتدادا للغرب في الشرق الأوسط، وأيضا بسبب قوتها.
وفي تلك الفترة حصلت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وتاليا اتفاقية كامب ديفيد (1978)، التي أخرجت مصر من معادلات الصراع مع إسرائيل، كما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، أواسط السبعينات، التي نجم عنها التدخل السوري، ثم الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، الذي نجم عنه القضاء على الوجود الفلسطيني السياسي والمسلح في ذلك البلد.
بيد أن تلك المكانة تراجعت، أو انحسرت، منذ مطلع التسعينات، مع اختفاء صراعات "الحرب الباردة"، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وصعود الولايات المتحدة كقطب أوحد في العالم، وقد تأكد ذلك باهتزاز مكانة إسرائيل، أولا، بفعل اندلاع الانتفاضة الشعبية الأولى (1987-1993). وثانيا، إخفاقها في الحؤول دون غزو نظام صدام للكويت (1990)، إذ قامت الولايات المتحدة مباشرة، مع حلفائها، بإخراجه، ومن ثم إسقاطه (2003)، وفي تلك الأجواء عقد مؤتمر مدريد للسلام (1991)، وتاليا اتفاق أوسلو (1993).
ما يجدر لفت الانتباه إليه أنه تبعا لكل ما تقدم، فقد نجم عن ذلك أن الولايات المتحدة تركت منطقة المشرق العربي (ومعها اليمن)، في العقدين الماضيين، مرتعا لسياسات النظام الإيراني، ومنطقة نفوذ له، دون مبالاة بالتحفظات الإسرائيلية.
هكذا قام الجيش الأميركي بإسقاط نظام صدام (2003)، بالتعاون مع النظام الإيراني (كما حدث قبلها في أفغانستان)، لكن الإدارة الأميركية سلمت العراق للميليشيات التي تشتغل كذراع إقليمية لإيران، وهي لم تكتف بذلك، في ظل الحاكم الأميركي بول برايمر، إذ قامت بحل كل أجهزة الدولة، وحتى شرطة المرور، وليس الجيش فقط، وفرضت دستورا طائفيا في العراق، يسهل سيطرة إيران التي كان قادتها يجاهرون بالقول إن الولايات المتحدة هي الشيطان الأكبر.
حصل مثل ذلك في التغاضي الأميركي (والإسرائيلي بالطبع) عن هيمنة إيران المباشرة على سوريا، وقبلها على لبنان، وضمن ذلك صعود نفوذ "حزب الله"، وباقي الميليشيات الطائفية المسلحة التابعة لإيران، في بلدان المشرق العربي، أي في العراق وسوريا ولبنان.
الآن، بعد عقدين من زمن الهيمنة الإيرانية، في سوريا ولبنان والعراق، يبدو أن مشروع الاستثمار الأميركي (وتاليا الإسرائيلي) بإيران انتهى، أولا، لأن تلك البلدان باتت في حالة خراب، وتصدع، على الصعيدين الدولتي والمجتمعي، فلم يعد ثمة حاجة لإيران بعد ان استنفذت مهمتها.
ثانيا، لأن إيران على ما يبدو استفادت أو استثمرت، بدورها، أكثر مما يجب من مرحلة السماح أو السكوت الأميركي، وظهر أن لديها تقديرا أكثر، خاطئا أو مصيبا، لقوتها، أو قدرتها، أو لردة الفعل الأميركية ضدها، بإصرارها على حيازة قوة نووية، وامتلاك قدرات صاروخية، واللعب مع قوى أخرى مثل روسيا (دعم روسيا بالمسيرات والصواريخ في الحرب الأوكرانية)، وتحدي وجود إسرائيل في المنطقة. ثالثا، لعل العامل الأساسي، في انتهاء الاستثمار الأميركي والإسرائيلي بسياسات إيران، التي أضعفت بني المجتمع والدولة في العراق وسوريا ولبنان، حدث بعد الضربة القوية، والمباغتة، وغير المسبوقة، التي استهدفت إسرائيل في عملية "طوفان الأقصى" (10/7/ 2023)، فبعد ذلك التاريخ ليس كما قبله، خصوصا أن ذلك تبعه تجرؤ "حزب الله" (في لبنان) و"الحشد الشعبي" في العراق، و"أنصار الله" الحوثيين في اليمن، على توجيه ضربات صاروخية لإسرائيل، وفق مبدأ "وحدة الساحات"، الذي تم تفعيله في الحدود الدنيا، والذي لم يؤثر على حرب الإبادة الوحشية التي شنتها إسرائيل على فلسطينيي غزة، طوال عام كامل، وذلك قبل توسيع إسرائيل الحرب ضد لبنان منذ أواسط سبتمبر/أيلول 2024. وهنا ربما أن صعود قوة "حزب الله" في لبنان وسوريا ومداخلات الحوثيين ضد إسرائيل وخاصة ضد بواخر الشحن في المضائق الدولية لعبا دور جرس الإنذار في الغرب، ولا سيما في الولايات المتحدة، لإنهاء حقبة الاستثمار الأميركي بإيران.
هذا يفسر النقلة الحاصلة باعتماد إسرائيل لإجراء عمليات جراحية مؤلمة ومأساوية ومهولة في الجسمين الفلسطيني واللبناني، طوال 13 شهرا، ولا أحد يعرف بعد إلى متى ستستمر، وأي مناطق ستشمل بعد غزة ولبنان، وماذا عن سوريا والعراق واليمن؟
ثمة من كل ما تقدم، ملاحظتان، الأولى، أن أكثر دولتين إقليميتين لعبتا كمقررتين في هندسة المشرق العربي، في نصف القرن الماضي، هما إسرائيل وإيران، في حين كانت تركيا، رغم قوتها، أضعف من القيام بأي دور (باستثناء مداخلاتها في سوريا مؤخرا، وهي ظلت محدودة).
ومع ذلك فإن الولايات المتحدة كانت هي المايسترو، أو المهندس الحقيقي في كل الترتيبات والتحولات الإقليمية، من دون أن يفهم من ذلك تابعية إيرانية للولايات المتحدة. (للمزيد راجع مقالتي: "إعادة تشكيل الشرق الأوسط"- "المجلة"- 28/9/2024).
الثانية، إنه في مطلع التسعينات، ومع اختفاء الحرب الباردة وعالم القطبين، أتت الدعوة من شمعون بيريز لإقامة شرق أوسط جديد، على أسس التعاون الإقليمي بين إسرائيل والدول العربية، في مجالي الاقتصاد والبني التحتية، على أن يشمل ذلك ولادة كيان سياسي للفلسطينيين بمرتبة دولة في الضفة والقطاع. الآن، يطرح بنيامين نتنياهو إقامة نظام إقليمي جديد بوسائل حرب الإبادة التي يشنها، بدعم غير محدود من الولايات المتحدة، محاولا تحقيق حلمه بشطب الوجود السياسي للشعب الفلسطيني، أي لا "حماسستان" ولا "فتحستان"، فقط حكم ذاتي، ولو سمي دولة، في كانتونات لا تواصل بينها، دون سيادة على الأرض والمعابر والموارد.
ولعل هذا يفسر ما يفعله بقوة القنابل المهولة في غزة ولبنان، في محاولته محو وتغيير الخرائط الجغرافية والبشرية والسياسية في المشرق العربي، وإقامة عوازل بين إسرائيل ومحيطها، سيما مع فوز حليفه دونالد ترمب، وخصوصا مع اعتقاده أنها الفرصة المناسبة للتخلص من الفلسطينيين ديموغرافياً وسياسياً، من النهر إلى البحر، لتصحيح خطأ أسلافه، سواء الذي لم يستكملوا "الترانسفير" (1948) أو الذين وقعوا اتفاق أوسلو (1993) ومكنوا الفلسطينيين من إقامة كيان سياسي لهم.