أرادت إسرائيل أو ظنت ومؤكد أنها سعت الى حسم صراعها مع حزب الله بالضربة القاضية، من خلال توجيه ضربات خاطفة ومتلاحقة للحزب وذلك خلال الأسبوع الأول من الحرب بينهما، وذلك عبر ضربة "البيجر" والتي أعقبتها بسلسلة اغتيالات طالت عدداً من قيادات الصف الأول العسكرية للحزب، وكان هذا أفضل سيناريو لإسرائيل، أي أن توجه الضربة المعد لها جيداً ومنذ وقت، واستناداً الى أهم قوتين لديها، وهما قوة الاستخبارات والقوة الجوية، وذلك لإدراك إسرائيل جيداً، بأن حرباً مفتوحة وطويلة الأمد مع حزب الله، عوضاً عن أنها ستكون خاسرة، فإنها ستكون مكلفة، بالنظر الى ترسانة الحزب من ناحية، ومن ناحية ثانية طبيعة الحزب التي تجمع ما بين ميزات الجيوش الحديثة من زاوية الاحترافية العسكرية وتعدد الأسلحة، وميزة حركات المقاومة، التي تعتمد الحاضنة الشعبية، والدفاع عن الأرض والقيم الوطنية والدينية، والتي عادة ما تنتصر فيها خلال حروب التحرير طويلة الأمد.
والحروب عادة، تبدأ بتوجيه الطرف المهاجم ضربة، غالباً ما تكون جوية هدفها هو شل قدرات الخصم، وجعله غير قادر على الرد، أي أن المهاجم عليه قبل أن يقدم على البدء بالحرب أن يكون ضامناً بنسبة كبيرة منع عدوه من الرد، أو ضمان خفض ذلك الرد الى حدود كبيرة، أو غير فعالة، وذلك لأن من شأن امتصاص الطرف الذي تعرض للهجوم للضربة الأولى أن تتوفر له مشروعية الرد بأريحية، ومن ثم يكون ذلك عاملاً مساعداً، على مواصلته الحرب وفق تكتيكه، خاصة اذا ما كنا ازاء طرفين غير متناسبين للحرب، كما كان الحال دائماً مع جيش احتلال وحركة مقاومة، ورغم أن الحديث هنا يدور عن عملية عسكرية غير برية، أو أنها تقتصر على توجيه القصف الجوي والرد الصاروخي عليه، فإن الأمر يكون منوطاً هنا بمدى تأثير القصف الإسرائيلي والرد عليه، وإن كان كل ذلك لا يعتبر إلا مقدمة لحرب إن لم تتحول لعملية عسكرية برية، فإنها ستظل غير حاسمة، أو أشبه بالرسالة السياسية.
وعلينا هنا أن نتذكر جيداً ما وقع يوم السابع من أكتوبر وما تلاه من قصف جوي إسرائيلي لقطاع غزة استمر عشرين يوماً، كانت خلالها حماس ترد بإطلاق صاروخي على مدن غلاف غزة الاسرائيلية، بما يشبه ما حدث خلال الأسبوع الأول من حرب الشمال بين إسرائيل وحزب الله، مع الفارق بالطبع وهو أن اسرائيل المنفعلة في ذلك الوقت، تريثت قبل أن تبدأ العملية البرية، في حين أن حزب الله الذي يتحلى بالذكاء التكتيكي الشديد، ومعه إيران ايضاً، اللذين يدركان جيدا، بأن اسرائيل تسعى بالأساس الى إلحاق الهزيمة بالموقف الأميركي، وذلك من خلال فرض الحرب الإقليمية الشاملة، لإجبار أميركا على المشاركة فيها لتدمير إيران لصالح إسرائيل، كما سبق لها وفعلت مع العراق قبل نحو عشرين سنة، ومدخل ذلك هو إفقاد حزب الله توازنه أولاً، لينفعل لحظة وقوع الضحايا بضربة واحدة، وكان هذا يمكن أن يقع بتقدير اسرائيل لو أن "البيجر" أدى لمقتل خمسة آلاف شخص في دقيقة واحدة، أو بعد جملة الاغتيالات المتلاحقة لقادته العسكريين، أو حتى كرد على قتل نحو ستمائة مواطن وجرح نحو ألفي لبناني في يوم واحد، جراء إلقاء 250 طائرة نحو ألفي طن من المتفجرات، وكل هذا وقع خلال اسبوع واحد، ما بين الثلاثاء السابع عشر من الشهر الحالي والإثنين الذي يليه.
لكن حزب الله وإيران يدركان الهدف الرئيسي لإسرائيل، وهو يتجاوز غزة ولبنان، أي لا يكتفي بتدمير حماس ولا حزب الله، لأن ذلك لو حدث فإنه سيأخذ وقتاً طويلاً، ولن يكون لا مضموناً ولا ممكناً في المدى المنظور، والهدف هو تدمير إيران بأسرع وقت، أي قبل أن تمتلك القنبلة النووية، لهذا فإن هذه الحرب ما هي إلا تعبير حاد وساخن عن صراع إقليمي متصاعد، الوقت فيه هو العنصر الحاسم، بالنظر الى أن النظام العالمي في طور إعادة التشكيل، ولهذا فإن إسرائيل تسابق الزمن، لكن الزمن سيخذلها.
وحقيقة الأمر أن شبه حالة التوازن القائمة حالياً، بين إسرائيل مدعومة أميركياً من جهة، وجبهات إسناد غزة، أي كل من المقاومة الفلسطينية في فلسطين (غزة والضفة) وحزب الله والحوثي والحشد الشعبي العراقي، مدعومين عسكرياً وسياسياً من إيران، يعتبر أمراً مهماً، بل إنجازاً عظيماً يعطل المشروع الصهيوني في مرحلته الثانية، أي مرحلة إقامة اسرائيل الكبرى، أو تحويل اسرائيل الى دولة إقليمية عظمى، بعد إقامتها، وبعد أن قطع شوطاً مهماً في مسار تطبيعها الإقليمي، ولأن اللحظة لن تتكرر، بل الوقت أصبح حاداً كالسيف وبات عامل الحسم الأهم _كما أشرنا_ فإن إسرائيل في عجلة من أمرها، فيما المحور المضاد، على عكسها تماماً، وعجلة اسرائيل مبعثها استثمار ما تبقى من وقت ما زالت فيه أميركا تقود العالم، والأهم بالنسبة لإسرائيل أنها تهيمن على معظم دول الشرق الأوسط، العربية بخاصة، وذلك في سياق فرضها كدولة إقليمية عظمى، إن لم تكن إسرائيل الكبرى، والعقبة في طريق ذلك إيران.
أما المحور المضاد، فهو يدرك جيداً، بأن الوقت لصالحه تماماً، وكلما طال وقت الحرب، زاد استنزاف إسرائيل، وابتعدت اللحظة التي تكون فيها أميركا قادرة على فرض إرادتها وفرض ما تريده إسرائيل في المنطقة، وإنه كلما طال الوقت تعززت مكانة الصين وروسيا ومجموعة بريكس الدولية على الصعيد العالمي، كما أنه مع قليل من الوقت، ستمتلك إيران قوة الردع النووي، ولهذا، فكما أن حماس لم تتعجل في مواجهة اسرائيل، وانتظرتها حتى بدأت العملية البرية، ولم تلق بكل ما لديها من صواريخ وأسلحة منذ بدء الحرب، لأنها تعرف بأن الطريق بعد ذلك ستنفتح لإسرائيل، كذلك يفعل حزب الله، الذي لن ينجر مهما حدث من أمر، لدائرة التكتيك العسكري الإسرائيلي، الذي يريد حرباً خاطفة، ويتمنى أن يقوم الحزب في لحظة واحدة، بإلقاء كل ما لديه من نار، تفتح أبواب جهنم على إسرائيل.
وكما أن أميركا لا تسمح بهزيمة إسرائيل، أي بانهيارها، لا يسمح محور المقاومة بخسارة غزة، وإن كان الأمر أقل وطأة، لأن رأس المحور هو إيران، لذا فإن وحدة أطراف المحور، كانت كافية طوال عام للتصدي لكل ما لدى اسرائيل من قوة عسكرية بالدعم الأميركي الذي وصل أقصى حالاته في الزج بالبوارج الحربية في البحر الأحمر، ولم ينجح على أي حال، كما أن كل القوة العسكرية الاسرائيلية لم تنجح في تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية في غزة، وإن كانت اسرائيل قد حققت انجازات تكتيكية تمثلت في قتل عشرات آلاف المواطنين، والحاق التدمير الواسع والرهيب بغزة، لكن حماس ما زالت تقاوم، كذلك يمكن لإسرائيل أن تنجح في قتل عشرات آلاف اللبنانيين وإيقاع تدمير واسع بلبنان، إضافة بالطبع الى اغتيالات كثيرة في صفوف القادة والكوادر والمقاومين، لكن حزب الله لن يرفع الراية البيضاء، كما لم ترفعها حماس في غزة، وإن كانت لحزب الله حسابات محلية أكثر صعوبة من حسابات حماس.
والوصول الى هذه المرحلة من الحرب، أي منعها من أن تكون حرباً خاطفة، وتحويلها الى حرب استنزاف طويلة الأمد، هو نصف النصر لمحور المقاومة، وبقي فقط أن يمتص حزب الله الضربة الأولى، ويجتاز التأثير السلبي المعنوي الناجم عن اغتيال القادة العسكريين، وهم على أي حال من رعيل أول، يبدو أنه قد سلم الراية منذ وقت للجيل الشاب التالي، ومن ثم يواصل حزب الله الرد على إسرائيل بهدوء، يزيد من تأثيرات الحرب على الداخل الإسرائيلي الهش، والذي لا يحتمل ازدياد عدد المهجرين ولا استمرار تعطيل الاقتصاد، كذلك فإن الوقت مع صمود حزب الله في مواجهة الفترة الأولى، يحمل بين طياته، تفعيل وتصعيد جبهات الإسناد، بما فيها جبهتا العراق واليمن، كذلك السعي جدياً لفتح جبهات أخرى، تحمل معنى آخر لتوسيع الحرب، حين ذلك فإن قادة الحرب الإسرائيليين سيتراجعون، وهم يرغبون بالمناسبة، باستثناء بنيامين نتنياهو بالطبع، لأسبابه السياسية الشخصية، وعلى غير ما يعتقد معظم المتابعين، بعدم فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية، فإسرائيل المؤسسات تعرف بأن داعم كامالا هاريس هو مجمع الصناعات العسكرية الأميركي، فيما داعم ترامب هو تكتل الصناعات النفطية، وهكذا فإن هاريس ستواصل طريق بايدن، بادارة حرب شرق أوسطية، تستمر دون حسم، لتسويق بضاعة عسكرية أميركية باتت قبل عقود بضاعة كاسدة.