في خواتيم حياته ومسعاه، في هذه السنة، وبعد تلك المحاولة لتعبئة الرأي العام، بمنطق أن رئيس للشعب الفلسطيني، سوف يطرح خلاصة تجربته في شكل قرارات مدوية لتعديل المسار؛ ظهر محمود عباس على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، في أكثر إطلالاته هُزالاً وبؤساً، فأحبط مواليه وجدد غِلّ منتقديه وضحايا سياساته، بدل أن يعمل على استدراك شيء أخطأ فيه، وآلم شعبه واستخف بالحركة الوطنية الفلسطينية!
البسطاء والساذجون من الموالين، لم ينتبهوا الى أن عباراته التي يؤكد فيها على أنه يرفض هذا السلوك أو ذاك من إسرائيل والولايات المتحدة؛ لم تصدر عنه إلا بمنطق الحق الذي يراه الطائع لنفسه، على من يطيعهم. هو يفرش بساطه ويُعدد براهين طواعيته، لكي يقول إنه يرفض هذه النقطة أو تلك، على طريقة "مكانش العشم". يعرض رفضاً لفظياً ليس قبله عزم ولا بعده إرادة، وبلا تغيير في النهج أو تلويح باحتمالات تغيير!
لأنه الحاكم الفرد، الذي لا يكشف نواياه لأقرب مساعديه، وليست وراءه مؤسسة دستورية تراجعه أو تناقشه؛ جعل بعض أفراد حلقته الضيقة يقعون في الحرج، إذ سُمعت منهم توقعات أخرى، حتى بلغ الجهل بنواياه، أن يقول أحدهم، إن فخامة الرئيس سيعلن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عن قرارات تُنفذ في اليوم التالي للخطاب. ولا حرج على من يجهل، وإن كان الحرج وارداً بالنسبة لمن يبالغ في التفاؤل!
استحوذ ذم الإرهاب، مساحة معتبرة، من خطاب محمود عباس. هو رجل، كما يطرح نفسه، يقف في طليعة من يحاربون الإرهاب في العالم، وله اتفاقات مع ثلاثة وثمانين دولة على هذا الصعيد. فمن يستمع الى هذا الكلام، يظن أن المتحدث، جاء الى نيويورك بينما قواته تنتشر حول مواضع تمركز داعش في الصحارى والشقوق، وعند البؤر الحاضنة للإرهابيين في جبال آسيا وإفريقيا، إذ لا بلد ولا حكومة في العالم، لها من اتفاقات التعاون لمحاربة الإرهاب، مثل هذا العدد الذي له. لقد بدت كل هذه القنبلة الكبيرة من الدخان، لكي يؤكد ضمناً، وبمفردات غير مباشرة، على أن مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال، ليست إلا إرهاباً في نظره، وأنه يؤدي مهمة جليلة في محاربة الإرهاب على هذا الصعيد، وستكون المصالحة الفلسطينية، جزءاً من خطته الأمنية، لإن سلاح غزة هو سلاح للإرهاب!
مساحات أخرى معتبرة، من الخطاب، كان فيها الخطيب يتأسى على مآلاته، وعلى النتيجة التي توصل اليها، وهي جحود أمريكا التي لم تقدّر أفضاله، وتمادي إسرائيل في العدوان وفي إحراج سلطته أمام شعبها، بينما هو المنفذ الأمين لمتطلباتها الأمنية.
ولكي يؤكد على حُسن نواياه، يؤكد الرجل في نهاية خطابه، على أنه لم يفقد القدرة على العمل، والدليل أن الشيء الوحيد الذي قرر بشأنه، هو تحديد المهلة التي أعطاها لحماس، لكي تمنحه السيطرة ويستحوذ على حكومة واحدة وسلاح واحد. فإن لم تلب حماس طلبه، فإنه سيُخلي مسؤوليته تماماً عن غزة، التي زعم أنه ينعشها ويصرف عليها ويُكرمها. فلم يعد مستعداً للاستمرار في مد يده البيضاء لها، ولم يعد يريد غزة، بدون قوة أمنية تطارد المقاومة ومن يوالونها، وتفتح الطريق لجنود الاحتلال، لشراء بوظا كاظم مثلما يشترون بوظا رُكب في رام الله!
مرت ثلاث أو أربع دورات للجمعية العامة للأمم المتحدة، هدد فيها عباس بالتراجع عن شيء أعطته السلطة للعدو، ثم تأكدت أن هذا العدو لا يستحق، وفي الشهور الأخيرة، اتخذ المجلس الوطني الذي قام هو نفسه بتفصيله وبإقصاء من يريد إقصاءهم بطرق مختلفة؛ قرارات التراجع، لكنه لم ينفذ أي قرار للمؤسسة التي يزعم أنه قام بتجديدها واستكمال نصابها. لم يقل إنه بعد أن فصّلها على مقاسه، سرعان ما بدأت الأطراف التي تماشت معه، في التسرب من هذه المؤسسة، بسبب عناده وعجزها عن تنفيذ ما اتخذت من قرارات!
الطريقة التي تحدث فيها عن المظلمة، كانت مهينة، بخاصة وهو يحاول التعريف بالمُعرّف. فكل الحاضرين يعرفون أن الولايات المتحدة، منحازة لإسرائيل. فليس هذا هو الذي يحتاج العالم الى سماعه والإفاضة فيه. وللأسف، كان كل كلامه، متلازماً مع القول إننا لن نقاوم ولن نفعل شيئاً يزعج أحداً، ولن نتأخر عن أحدٍ يطلبنا لما يسمى المفاوضات، وأننا نحارب الإرهاب.. إرهابنا!
رجل يقول من فوق منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، إنه استكمل بناء المؤسسات، وأن أمور سلطته، في أتم بهائها، وأن حبه للسلام في ذروة تجلياته، وما على الأمريكيين والمحتلون إلا أن يشعروا بشيء من الوفاء والحياء!
ومن فوق منبر الأمم المتحدة، يتطوع بإبلاغ العالم، أن غزة فيها ميليشيات مسلحة. لم يذكر بيشاور الباكستانية بالإسم، وإنما ذكرها بالرسم، لكي يلمح أن أنموذج بيشاور ليس له علاج سوى الغزو، وذلك كان المعنى الضمني!
جاءت الرحلة باهظة الكلفة سياسياً ومالياً، وكان الأجدر والأقل خسارة وإحباطاً للمتفائلين والموالين، أن يُكلف رياض منصور، أو صائب عريقات، بطرح الرواية، طالما أن خطابه سيخلو من أي موقف عملي أو قرار، وسيكتفي بشكوى العليل وبالتلوبح لغزة بعظائم الأمور!