كتبت زينب خليل: لم يكن الشهيد ياسر عرفات قارئا مداوما للأدب أو مغرما بالفنون، فهو لا يهتم كثيرا بالذهاب إلى السينما أو المسرح أو العروض الفنية ماعدا الفرق الفلكلورية الفلسطينية، أو حتى الاسترخاء في العطل الأسبوعية، ولا سيما أنه كان يعمل ثماني عشرة ساعة في اليوم، ومنذ انطلاقة حركة فتح والكفاح المسلح صار الإحساس بالخطر يجثم على تفكيره وتحركاته، فلم يكن ينام في مكان واحد ليلتين متتاليتين.
الثورة قلم أديب وقصيدة شاعر
على الرغم من ذلك فقد كان يتابع الأمور السياسية بالتفصيل، ويقرأ الكتب السياسية الضرورية، فقد كان أبو عمار قارئا مهما، لكنه كان منغمسا في قراءة التقارير السياسية والترجمات والمذكرات وكل ما يتعلق بشؤون الثورة الفلسطينية، ومع ذلك كان يردد دائما، أن الثورة ليست مجرد بندقية فحسب، بل هي قلم أديب وقصيدة شاعر وريشة فنان وخيال مبدع ونغمة موسيقى.
ياسر عرفات السياسي والثوري لم يغفل أهمية الإعلام والثقافة على الإطلاق، ولا يمكن أن ننسى أن أبو عمار مارس الصحافة فترة من الزمن، فكان يكتب في مجلة "فلسطيننا" التي صدرت بين 1959 و1964 لتكون المنبر الإعلامي لحركة فتح قبيل انطلاقة الكفاح المسلح، وله فيها عدد من الافتتاحيات والمقالات غير الموقّعة باسمه الصريح، والمعروف أن أبو عمار بعد عودته من فلسطين غداة النكبة أصدر في القاهرة، وبالتحديد في سنة 1949، مجلة "صوت فلسطين" وكتب فيها بعض المقالات.
أبو عمار والإبداع
كان ياسر عرفات، فوق ثقافته الدينية والسياسية، يحفظ كثيرا من الأبيات الشعرية التي يرددها في المناسبات وفي المقابلات الصحافية، وكان الشعراء والكتاب والمفكرون يألفونه جدا ويأنسون إليه، وفي طليعة هؤلاء الشاعر الشهيد كمال ناصر، فضلاً عن محمود درويش ومعين بسيسو ولطفي الخولي ولميعة عباس عمارة وكثيرين غيرهم، ولم يكن بعيدا عن الفنانين ومنهم، منذ البدايات الأولى، إسماعيل شموط على سبيل المثال، ولعل قلة من الناس تعرف أن شعار العاصفة صممه الفنان السوري نذير نبعة في سنة 1966، وكان على صلة مباشرة بياسر عرفات.
وقد كان ياسر عرفات يولي اهتماما خاصا بشاعر الثورة أبو الصادق (صلاح الدين الحسيني) الذي كتب أول نشيد للثورة الفلسطينية، والذي يقول مطلعه: "بسم الله، بسم الفتح، بسم الثورة الشعبية، باسم الجرح اللي بينزف حرية "، وعلاوة على ذلك ربطت ياسر عرفات صلات وثيقة جدا بعدد من المبدعات والمبدعين العرب أمثال الروائية اللبنانية ليلى عسيران التي كانت كاتبة جريئة ومتميزة في ستينيات القرن العشرين.
وبعد معركة الكرامة في 21/3/1968 ذهبت إلى الأردن والتقت ياسر عرفات وعاشت بين الفدائيين في القواعد العسكرية في الأغوار، وكان اسمها الحركي "خضرة"، ورافقتهم في بعض عملياتهم عبر نهر الأردن، وكتبت عنهم رواية "خط الأفعى" (إشارة إلى النهر) ورواية "عصافير الفجر".
وتوطدت علاقتها بياسر عرفات بعد تدفق الفدائيين على لبنان بعد حوادث أيلول الأسود في الأردن سنة 1970، وبسبب هذه العلاقة أحرق الكتائبيون منزلها في الدكوانة إبان حصار مخيم تل الزعتر في سنة 1976، وفي هذا كتبت رواية "قلعة الأسطى" عن منزلها ومخيم تل الزعتر والطباخ السوداني (الأسطى) الذي اغتاله الكتائبيون، وعن الموت والحرب وفلسطين.
قصيدة عراقية عن أبو عمار
اشتُهرت قصيدة للشاعرة العراقية المعروفة لميعة عباس عمارة عن ياسر عرفات، وسرت في بيروت سريان النار في الهشيم، ولم يعرف بها ياسر عرفات إلا بعدما حدثه أحد أقطاب الحركة الوطنية اللبنانية عنها. ومن بين أبيات هذه القصيدة ما يلي:
صُنوُ الملوكٍ ويطلبونَ رضاهُ.. يختالُ من زهدٍ على دنياهُ
لا بيتَ، سرجٌ دارُه، ومرورُه.. حلمٌ، وبغتةُ ضيغمٍ مسراهُ
كلُّ الشعوبِ توحدتْ في شعبه.. وحدودُه أنى تُشيرُ يداهُ
يدعونه الختيار ذاك لحكمةٍ .. وأنا كما الطفلُ النقُّي أراهُ
لولا جلالةِ قدرهِ، ولكونه.. رمزَ الفداءِ، لخلتني أهواهُ
الثائر والشاعر
نموذج متفرد في تاريخ تحرر الشعوب، تلك العلاقة التي جمعت ياسر عرفات (1929 ــــ 2004) بمحمود درويش (1941 ـــ 2008)، حيث نعثر على ذاك التلاقي بين الثائر والشاعر، اللذَيْن يربطهما جدل درامي استثنائي، وحيث لا تكتمل كينونة هذا إلا بحضور ذاك، فقد شكلا تقاطبا عجيبا بين السياسي والثقافي.
محمود درويش كان في منزلة الابن لياسر عرفات، وكان يعتبر أبو عمار والده، وقد كان لصيقا به في بيروت وفي تونس وفي رام الله، ولعل من غير المعروف تماما، إلا لقلة من الناس، أن محمود درويش كان من أهم الباحثين الذين يفهمون إسرائيل فهما عميقا وثاقبا، وكان أبو عمار يستمع إليه بشغف ويستشيره في الشؤون الإسرائيلية.
مرحلة التلاقي- بعد عملية الكرامة التي أثبتت فيها منظمة التحرير جدارتها في الصمود أمام الجيش الإسرائيلي، كتب محمود درويش قصائد ديوانه: «حبيبتي تنهض من نومها» الذي نُشر سنة 1970، تجاوبا مع بدايات العمل المسلح الذي يقوده ياسر عرفات، فكان أول تواصل غير مباشر من جهة محمود درويش بياسر عرفات.
وفي الوقت الذي كان ياسر عرفات يؤسس فيه قواعد جديدة جنوب لبنان، حصلت أحداث أيلول الأسود سنة 1971، فغادر غور الأردن برفقة المسلحين الفلسطينيين، واستقر في بيروت، بعد ذلك بسنة، سوف يخرج محمود درويش من السجن الإسرائيلي ويتوجه إلى الاتحاد السوفياتي، الذي لم ترقه الإقامة فيه، ليعود قافلاً نحو القاهرة، ويعمل مع محمد حسنين هيكل في جريدة «الأهرام»، وينشر قصيدته: «سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا» التي اعتبرها كثيرون عاكسة لمرحلة فتور ثوري لدى محمود بعد خروجه من السجن، وصدمته من النموذج السوفياتي الذي طالما آمن به.
لكن الموعد الحقيقي مع ياسر عرفات سيكون عند انتقاله من القاهرة للاستقرار في بيروت، سنة 1973، ستكون أطول فترة مجاورة بينهما إلى أن فرّقهما، لفترة، حصار بيروت سنة 1982. في تلك الفترة، عمل درويش رئيساً لتحرير مجلة «شؤون فلسطينية»، وأصبح مديراً لمركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، بتكليف مباشر من ياسر عرفات. ستتوطد علاقة ياسر بمحمود إلى درجة أن كلّفه بكتابة أول خطاب له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، سنة 1974، حيث كتب درويش الجملة الأشهر في تاريخ الدولة الفلسطينية، وقد ردّدها العالم العربي بعدها، ولخّصت القضية الفلسطينية، وهي: «لقد جئتكم بغصن الزيتون مع بندقية ثائر.. فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي» في السنة ذاتها التي نشر فيها ديوانه: «محاولة رقم7».
وعند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975، وجد ياسر عرفات نفسه في عين العاصفة، بما كان يعني أن يكون درويش نفسه في موقفه نفسه، ولكن من موقع الأديب والصحافي الذي يعكس موقف المنظمة ويدافع عن حقها في الوجود، فنشر ديوانه "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق".
كان لمحمود درويش الدور الكبير في ربط ياسر عرفات باليسار الإسرائيلي، وهو البعد الذي اعتبره كثيرون نوعا من الاختراق الفلسطيني للكيان الإسرائيلي، فبفضل هذه الوساطة الدرويشية، أصبحت لياسر عرفات علاقة قوية بالصحافي الإسرائيلي اليساري المرموق أوري أفنيري، الذي كان يدافع عن وجهة النظر الفلسطينية في المعسكر الإعلامي الإسرائيلي.
غير أن الخلاف الأول والأكبر بين ياسر ومحمود، كان سنة 1977، على إثر نشر مركزه مقالةً كتبها صديقه إلياس خوري، منتقداً فيها ممارسات المنظمة، ما أغضب عرفات الذي قام بإرسال قوة أمنية لتداهم مركز الأبحاث للقبض على خوري، ما دفع درويش للاستقالة من رئاسة مركز الأبحاث. فكانت فترة قطيعة بينهما دامت ثلاث سنوات، غادر على إثرها إلى تونس، ولم يعد إلى بيروت إلا بعد نجاح وساطات للصلح بين الشاعر والثائر، فأسس مجلة «الكرمل»، لتمثل مرحلة جديدة في تبلور تجربة درويش الأدبية.
اشتد الحصار على ياسر عرفات في لبنان، ليصل إلى ذروته عند محاصرة شارون لغريمه التاريخي، في يونيو/حزيران 1982، وحينما كان ياسر عرفات يحصن موقعه في طرابلس عام 1983 لمواجهة المنشقين عنه، إذا بمحمود درويش يفاجئه بزيارته سرا، في ظروف أمنية وسياسية وعسكرية غاية في الخطورة. تلك الزيارة التي ستظل ماثلة في ذهن الثائر، ركّزت وفاء وتضحية من الشاعر.
حينها أرخ تلك الملحمة التاريخية، برائعته الخالدة: «مديح الظل العالي»: "هي هجرة أخرى/... فلا تكتب وصيتك الأخيرة والسلامَ/ سقط السقوط، وأنت تعلو فكرة/ ويدا / وشاما/ لا برّ إلا ساعداك/ لا بحر إلا الغامض الكحلي فيك/ فتقمّص الأشياء كي تتقمّص الأشياء خطوتك الحرامَ/ واسحب ظلالك عن بلاط الحاكم العربي/ حتى لا يعلقها وساما/ واكسر ظلالك كلّها كيلا يمدّوها بساطا أو ظلاما".
شارك محمود درويش في كتابة خطاب ياسر عرفات الذي ألقاه في الأمم المتحدة سنة 1974، وكتب إعلان الاستقلال الذي قرأه ياسر عرفات أمام المجلس الوطني في الجزائر سنة 1988، وكتب أيضا خطاب ياسر عرفات أمام اليونسكو سنة 1993، وخطابه في حفل تسليمه جائزة نوبل في سنة 1994.وكتب محمود درويش أجمل قصائده عن ياسر عرفات وهي: مديح الظل العالي، قصيدة بيروت، رثاء ياسر عرفات.
أبو عمار وسميح القاسم
كثيراً ما كان أبو عمار يرسل تحياته إلى سميح القاسم لأنه شاعر قومي الاتجاه وفلسطيني المضمون ويعيش في داخل اسرائيل وله مواقف وطنية مشهودة.
وفي سنة 1999 كان ياسر عرفات يرعى احتفالا في جامعة بيت لحم، وفي هذا الاحتفال ألقى سميح القاسم كلمة باسم الفائزين بجوائز الشعر، وكان هو الفائز بجائزة تلك السنة، وقد جاء في كلمته: "والله يا أبو عمار، لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بأقلامنا".
وكان سميح القاسم يريد أن يُظهر مدى علاقته بياسر عرفات، لكن بعض الحضور استنكروا هذا الكلام الموجّه إلى قائد الثورة، وعلى الفور استدعى ياسر عرفات حارسه محمد الداية وقال له: أعطني مسدسك يا محمد. ثم تقدم من سميح القاسم، وقال له بصوت عالٍ وأمام الجميع: "مش بالقلم وبس.. بالمسدس كمان. خذه.. خذ هذا المسدس واقتلني إذا وجدت فيَّ اعوجاجا"، وقد ارتبك سميح القاسم وعم الذهول القاعة، وهنا عانق أبو عمار سميح القاسم وقبله واغرورقت عينا سميح القاسم بالدموع.
إنسانية عرفات
من الشعراء الذين أحبهم ياسر عرفات الشاعر الفلسطيني توفيق زياد صاحب قصيدة "أناديكم" وقصيدة "هنا باقون" وتشاء المصادفات أن يموت شاعر الرجوعيات بحادثة سير وهو عائد من لقاء ياسر عرفات في أريحا في 5 يوليو/تموز 1994. وكان أبو عمار يهتم بأوضاع الشعراء والكتاب العرب الذين عاشوا في كنف الثورة الفلسطينية ويسأل عن أحوالهم ويلتقيهم أحيانا كثيرة، وهو الذي اصدر أمرا بتغطية نفقات علاج الشاعر المصري أمل دنقل صاحب قصيدة "لا تصالح"، الذي عانى السرطان طويلا، وبتغطية نفقات علاج الكاتب السوداني جيلي عبد الرحمن، فاشترى له جهازا لغسيل الكلى ووضعه في منزله كي يجنبه عناء الانتقال من المنزل إلى المستشفى.
هذا هو ياسر عرفات بأحواله المتعددة في السياسة والثقافة والإعلام، وهذه المحطات هنا انما هي قبسات من تاريخه الثري الذي لا يكف عن التجدد فينا في كل يوم، وما نرويه دائما في ذاكرة إنما يبرهن أن أبو عمار ما زال حيا في خلايانا، وهو منسوخ بجلدنا كالوشم.