لطالما استحالت عملية النهب والسلب الثقافي للفلسطيني رأفةً وإنقاذًا رحومًا في الخطاب الصهيوني العام، بل حاول الأخير تمويه الحدود بين صيانة الممتلكات الثقافية ومصادرتها إبان نكبة 1948. وفقًا لخطاب «الرأفة والإنقاذ» يتم التعاطي مع الفلسطيني بمنطق عجزه عن إدراك المفهوم الماديّ لحماية مقتنياته الثقافية، مقابل كسب الصهيوني شرعية الجدارة في إخراج تلك الممتلكات من حيازة أولئك العاجزين عن فك رموزها ونقلها إلى أولئك الذين يتقنون جني الفائدة منها، لصالح العلم والبشرية.
في عام 1948، صودر من القدس وحدها أكثر من 30 ألف كتاب، تحديدًا من أحياء القطمون والطالبية والمصرارة. على وقع ذلك، تركّبت علاقات قوى بين الفلسطيني والصهيوني؛ التنازل في مقابل المخاطرة، فخلافًا للفلسطينيين الذين صُوِّروا كمن تنازلوا عن ممتلكاتهم الروحانية، وُصف عاملو الجامعة العبرية في القدس كمن خاطروا بحيواتهم من أجل هذه الممتلكات، بغرض إبراز الهوّة السحيقة بين الشرقي اللامبالي بثقافته، والصهيوني الغربي القادر دومًا على التعالي على كل ما سبق. يقول العامل في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، شلومو شونمي، والذي ترأس حملة تجميع الكتب في أكياس القمح الكبيرة: «إبان حرب الاستقلال، دبَّر بيت الكتب عملية واسعة لإنقاذ الكتب من التلف في الأحياء العربية المهجورة. ونتيجةً لذلك، جُمِعت عشرات آلاف الكتب، وهي محفوظة كوديعة إلى حين التيقن من مصيرها».1
بالتالي، مرّت الكتب بعملية سأطلق عليها «شرقنة»، خاضت الصهيونية عبرها صراعات على أحقية التمثيل للمشرق إجمالًا؛ إذ تقرر هوية من يسمح له بالكلام وتمثيل الشرق، وهوية الذي سيظل مكتومًا وبلا صوتٍ أو إمكانيةٍ لتمثيل نفسه. إذا عرفنا هذا، فإنه لا يمكن قراءة مشروع «جرايد»، الذي أطلقته المكتبة الوطنية الإسرائيلية عام 2015 ويتضمّن أرشيفًا للصحف العربية في فترتي الحكم العثماني والانتداب الإنجليزي على فلسطين، بعيدًا عن سياق الأرشفة الرقمية الذي اتجه نحوه المزاج الصهيوني الرسمي، والذي يعكس في الوقت ذاته جهرًا لمواضع وإسكاتًا لأخرى، وتصنيفًا لها بين مواضيع جديرة بالحفظ والصيانة وأخرى معدومة الأهمية أو سريّة، ليتحول الفلسطينيون إلى معطيات ضمن عمليات التشييء هذه.
اللافت في مشروع «جرايد»، المنضوي تحت مظلة قسم «دراسات إسلامية وشرق أوسطية» في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، وكل مشاريع الأرشفة المماثلة، أن الصهيوني في نهاية المطاف يفرض سلطته عبر احتكار المصدر والوصول، ويُقوِّم عملية «ضبط» إنتاج المعرفة في اتجاهٍ واحد، لكنه بالنهاية يصوّر نفسه على أنه الذاكرة الأمينة التي كسرت الحدود، وانفتحت على الرواية والعالم بما تمتلكه؛ إذ بات ابن العراق أو المغرب مثلًا قادرًا على الاطلاع على هذه الصحف بسهولة مطلقة، فلا يحتاج سوى كبسة زر على الموقع.
هنا، لا يمكن نكران نوع من الافتتان أو الانبهار الذي قد يصيب البعض لما أقدمت عليه المكتبة الوطنية الإسرائيلية في هذا المشروع؛ من موقع استدراكها لما فات، وكأنّ العملية باتت مدخلًا لإعادة الاعتبار للإرث الثقافي الفلسطيني وسيولةً معرفية معقّمة من كل العلاقات العنفيّة أساسًا، دون الأخذ بعين الاعتبار أن جميع الوثائق الفلسطينية قد تصبح ذات دلالة مختلفة تمامًا في سياق الأرشيفات الصهيونية، خاصة حينما تعمد الأخيرة إلى سياسة «الجهر والإسكات» لمواضع دون أخرى، إذ إن ثمّة ملفات كثيرة لا تزال رهن مصطلح «سرّي للغاية»، تحديدًا تلك التي تتعلق باللاجئين الفلسطينيين وتبرهن على نفيهم القسري من أراضيهم، على عكس ما عمد بن غوريون إلى برهنته. فبين عامي 1960-1964، حاول بن غوريون «مأْسسة النسخة الإسرائيلية للنكبة الفلسطينية عام 1948، ومنحها «صبغة أكاديمية». في ذلك الحين، استعان بأفضل المستشرقين الذين عملوا على خدمة «الدولة» ليبرهنوا «بالإثباتات» أن «الفلسطينيين هربوا عام 1948، ولم يُطردوا بالقوة أو يُهجّروا». مقابل ذلك، كان الإفراج عن ملفات اللاجئين الفلسطينيين مشروطًا زمنيًا، والتي فتحت أمام عدد من البحاثة الإسرائيليين؛ منهم بني موريس وتوم سيغف وآفي شلايم، ليوظّفوا تلك الوثائق في إعادة تدوين الرواية الصهيونية حول النكبة والتهجير المنافية لنظيرتها الرسمية، لكن هذه الرواية سرعان ما أعيد إغلاقها والتكتّم بشأنها.
يضم مشروع «جرايد» بين ثناياه أرشيف حوالي 38 صحيفة فلسطينية بواقع حوالي 9695 عددًا و70520 صفحة؛ أغلبها كانت تصدر في القدس وحيفا ويافا، ومنها «فلسطين» و«الدفاع» و«مرآة الشرق»، و«الوحدة» و«المستقبل» و«القافلة» و«المنتدى»، علمًا أن عدد الصحف الفلسطينية حتى عام النكبة 1948 كان حوالي 250 صحيفة. يغطّي موقع المشروع -حتى اللحظة- الصحف الصادرة ما بين 1908- 1920، وتلك الصادرة ما بين 1945- 1948، على أن يوسّع الموقع «بنك الدوريات والصحف المتاحة على الشبكة، وإضافة الصحف الصادرة بين 1921- 1944». هذه الصحف ليست نوعًا واحدًا؛ بمعنى أنها تتنوع بين الإخباري والهزلي والثقافي، وتتنوّع، كذلك، وتيرة الصدور والوَقع الجماهيري، وفاعليتها السياسية وخطها التحريري بين الجذري والبراغماتي.
ورجوعًا إلى تاريخ الصحف العربية في فلسطين ما قبل 1948، نجد أن الحديث عن الصراع القومي ما قبل ثورة البراق 1929 كان مقصورًا على صحفٍ بعينها، على عكس الفترة اللاحقة للثورة والتي توسّعت فيها رقعة تأجيج ذاك الصراع في طيفٍ أوسعَ من الصحف، «ليبلغ الصراع ذروته في سنوات الإضراب العام والثورة الفلسطينية 1936-1939»، ويتركز الخطاب الصحافي السياسي الفلسطيني على قضيتين محوريتين: صراع ضد الصهيونية والسلطة البريطانية؛ والصراعات الداخلية بين المعسكرين (عائلة الحسيني وعلى رأسها المفتي وعائلة النشاشيبي) والأحزاب»، وذلك بحسب مقالة عامي أيالون ونبيه بشير «حول تاريخ الصحافة العربية في فلسطين»، الصادرة على موقع المشروع. كل ذلك ساهم في ولادة صحف جديدة تنتمي لتلك الروحية، وذلك مثل صحيفة «الدفاع» اليافاوية التي فاقت مبيعاتها صحيفة «فلسطين» التي كانت أكثر قدمًا وجماهيريةً.