أن تمنح شخصاً ما صوتك في الانتخابات، فإن ذلك يعني أنك تمنحه "تفويضاً" باسمك في المضمار الذي يتعلق بالتخصص الذي يُعتمد على هذا الشخص فيه، وهو تفويض يكون بالعادة "محدداً ومؤقتاً"، أي أنه لا يوجد تفويض مطلق لا في الزمان ولا في المكان، وهذا التفويض إن أحسن الشخص توظيفه نال الرضا والثقة والحضور مع إمكانية التجديد، وإن خذل هذا الشخص من فوّضه دخلنا في سجالات تتعلق بالشرعية والثقة والأمانة وغيرها، أما في المجال السياسي فإن التفويض يكون عادة على أمر له علاقة بالمصير وبالمستقبل، ومن هنا يبدو العتب كبيراً لدى أهالي قطاع غزة نحو الرئيس محمود عباس، وهو بتقديري عتب على قدر الأمل الذي انتظروا ملامحه طويلاً ولكن أحداً لم يشفع لهم عن رئيسهم وعند باقي ولاة أمرهم لتبقى معاناتهم هي المحرك الأساسي والناظم للمسار الاجتماعي في القطاع المنكوب والمحاصر.
عاش شعبنا الفلسطيني حياة الديمقراطية وحرية التعبير حتى في زمن الاحتلال، فلم يمنع قمع المحتل جماهيرنا من أن تقول كلمتها في وجه الظلم على مدى عقود، وخاض انتفاضة شعبية هي الأطول في التاريخ في سبيل حريته، وحريته فقط، ثم تأسست السلطة الوطنية، فكان أبو عمار رحمه الله مدرسة في التحمل والصبر على الوجع، ولم يكن بينه وبين الناس ومعاناتهم حجاب، بل إن مكتبه كان مقصد الفقراء والمحرومين وأصحاب الحاجة، وقلما حالوا وبينه وبين الضعفاء، وقلما تمكن "بناة الجدر الإسمنتية" من وضع الحواجز بين الرئيس وشعبه، لكنهم فعلوها هذه المرة، ويكاد المرء يظن أنهم جعلوا برنامج الرئيس اليومي يخلو تماماً من لقاء مواطنيه، هذا في الضفة الغربية فما بالك بقطاع غزة وسكانه الذين يواجه السواد الأعظم منهم حاجز الرفض الصهيوني للوصول إلى الضفة الغربية، لتقتصر اتصالات الرئيس بأوجاع الناس على صيغة "تقارير جافة وجامدة ومصاغة بعبارات منمقة على ورق "مروّس" موسوم بتوقيع مسارات ذات طابع أمني وليس اجتماعي"، وينتهي الحال بمجموعة صور من حين لآخر للرئيس وهو يلتقي مجموعات شعبية وفعاليات مختلفة، صور فقط من أجل إكمال المشهد ومن أجل الديكور أكثر منها محاولة للاقتراب من الهم والوجع والوصول إلى قلوب الناس.
إن أبرز ما يميز سيرة القادة الذين وقفوا على صدر صفحات التاريخ عند شعوبهم أنهم كانوا أقرب للضعفاء من الأقوياء، كانوا أقرب للمظلومين والمقهورين والطبقات المسحوقة من شعوبهم، لم يكونوا "رؤساء نخبة"، ولم تتحلّق حولهم "عصابات" هدفها الوحيد هو "كنس" كل ما يفكر في أن يوصل لصانع القرار حقيقة الألم وحجم المعاناة، هؤلاء وهذه النوعية من البشر هي التي تؤسس لانهيار الثقة الشعبية، وهي التي تبني سياسات تقود بالعادة إلى توسيع البون بين القائد وجمهوره، وتضع الإطار المنهجي المؤسس لحالة من الكراهية لصانع القرار، ومحاولة البحث عن بصيص أمل في حقبة "ما بعده"، لذا يتوجب على الرؤساء ومن بينهم رئيسنا أن يعيد النظر في بطانته وأن يضع الإطار المهني والوظيفي والاجتماعي الذي يجعله للناس أقرب، بعد أن أصبحت المسافة بينه وبين أهله في القطاع المظلوم بعيدة وطويلة ومظلمة الدروب ومليئة بالأشواك التي وضعتها أيدي من وثق فيهم ومنحهم أمانة نقل الحقيقة فخذلوه.