في منتصف شهر مارس العام 2006 اقتحم المحتلون بجرافات ترافقها الآليات العسكرية سجن أريحا، فاعتقلوا الأمين العم للجبهة الشعبية أحمد سعدات واللواء فؤاد الشوبكي وآخرين، ومارسوا بشفاعة القوة الغاشمة، أقبح أشكال الإهانة بحق حراس السجن والسجناء، وكان المشهد العلني المصور ــ بخلاف التفصيلي غير المعروض ــ هو إخراج السجناء والحراس عُراة، ما جعل الفلسطينيين يشعرون بالأسى والجرح العميقين!
في ذلك اليوم كان محمود عباس رئيس السلطة في سفر أوروبي. عاد الرجل فأسمع الفلسطينيين والعالم بعض عباراته الركيكية الغبية، منزوعة السماجة في تلك المرة، بحكم أن المناسبة حزينة. قال مواسياً: "إن ما جرى، جريمة لا تغتفر، وإهانة للفلسطينيين.. وخرق فاضح للاتفاقات، وعلى الرغم من ذلك سنواصل العمل مع إسرائيل ولن نتراجع..".
لم يكن أحدٌ في تلك المرحلة، معنياً بمحاسبة الرجل على حرفية ألفاظه، لا سيما وأنه عُرف بخفة جملته السياسية، وركاكتها. فليس هناك جريمة للاحتلال يمكن أن تغتفر، ثم إن وجوده بحد ذاته في بلادنا جريمة، أما الإهانة فهي ليست للفلسطينيين بقدر ما هي لسيادته ولسلطته وللأطراف التي نُقل بموجبها سعدات والشوبكي الى سجن أريحا. فهؤلاء تشملهم الإهانة. أما خرق الإتفاقات، فبس فيه الفاضح والمهذب والمستتر، فالخروقات إسرائيلية أو صهيونية إن شئنا!
أيامها، قال البعض إن الرجل لا يريد ان يغامر بشيء، وألا يتسبب من خلال التصعيد، في تضييع فرصة العودة الى مسار العملية السلمية، برغم أن الأمور كانت قد ازدادت وضوحاً في العام 2006 وتبين أن اغتيال الرئيس ياسر عرفات، لم ولن يفرش لمحمود عباس طريقاً الى التسوية، حتى وإن اكتفى عباس في تجربة حكمه بعدم المطالبة بشيء لإعادة الأمور الى ما قبل أكتوبر العام 2000 اي الى ما قبل الإنتفاضة الطويلة الثانية. فهو أصلاً لم يفكر في العمل على تسوية قضايا اجتماعية ولوجستية عالقة، أو على رفع قبضة إسرائيل عن سجل مواليد غزة بعد إخلائها، أو تسوية أوضاع من لا يحملون بطاقات تعريف فيها. فعباس لم يطلب من إسرائيل شيئاً سوى لنفسه ولأولاده ولحاشيته، وقدم لإسرائيل التعاون الأمني بدون مقابل، وعلى الرغم من ذلك ازدادت إسرائيل استهتاراً به واستعداداً لتجاوزه حتى فيما يتعلق بحماس، وقد أوصلته اليوم الى حال الشراكة معها في طلب المعونة القطرية، هو من جهته ولاسبابه، وهي من جهتها ولأسبابها، على أن يتبع ذلك سلوك سياسي ذو علاقة بالمحاور الإقليمية والخصومات في إطارها!
لقد مرت اليوم، منذ ذلك التاريخ، إثنتا عشرة سنة كئيبة، شهدت كل أنواع الخروقات الإسرائيلية، التي لم يكتف عباس بعدم تسجيل ردود فعل عملية عليها وحسب، بل ساندها بتدابير حقودة وكيدية لإضعاف قدرة النظام الوطني الفلسطيني على العمل والإجهاز على كل عافيته وتصفية مؤسساته، ثم الإنتقال الى التدابير الإقصائية بحق غزة وسكانها ومناضليها ومجتمعها كله!
وفي محاذاة ذلك ليس أكثر مدعاة للدهشة، من انتهازية الحكم في قطر، الذي يتغاضى عن هجاء عباس المرير لجماعة "الإخوان" ولحماس، ويكتفي منه بطمئنته على جفاء علاقاته مع مصر والإمارات لكي يحصل على الدعم االقطري. فهو عملياً وانتهازياً، كمن يختلف في أوصافه عن تلك التي في أدبيات "الإخوان" وأدبيات الإعلام القطري، ويجري التعامل معه باعتباره القناة الصحيحة لإيصال الدعم للشعب الفلسطيني في الضفة، كأنما هو صاحب مشروع مقاومة ولو سلمية. فليست هذه المعايير هي التي تريدها الدوحة. لذا في مقدوره أن يكون مجاهداً كبيراً في حساباتها الخاصة وغير المعلنة، بل أن يكون أفضل وأضمن وأكثر التزاماً من حماس في غزة، طالما أنها تؤسس علاقة ذات حيثيات عملية مع مصر.
لا موجب لانتظار تغيير أو تبديل من طرف عباس الذي يتغالظ في الخصومتين الوطنية والفتحاوية، والذي يترقق أكثر فأكثر مع العدو كلما ازداد هذا العدو عربدة وسفالة وإيذاء للجميع بما فيهم سلطته. فالرجل لا يريد ان يقرأ المشهد العام ولا أن يتعلم من الدروس المريرة ولا أن يتعظ. بالتالي لا مجال لاستعادة مسار العمل الوطني ومنهجياته والسياسية والاجتماعية في ظل سلطة عباس، ولن تغطي هذه الحقيقة مكابرة المكابرين!