لا بد أن يكون الإحساس العميق بالغبطة، وبكل عناصر اللحظة التاريخية الفارقة، قد استحوذ على د. محمد اشتية وهو يؤدي قَسَم التكليف، أمام رئيس السلطة الفلسطينية. كذلك الأمر بالنسبة لكل واحد من المستوزرين للمرة الأولى. وعلى الصعيد العام، لمشهد الصف الوزاري الواقف لكي يؤدي اليمين، يمكن التغاضي عن السهو الذي أسقط بعض المفردات التي نصت عليها الوثيقة الدستورية، في صيغة القَسَم، لسبب بسيط وموضوعي تقتضيه الحالة الفلسطينية المُزرية، وهو أن محمد اشتيه وفريقه الوزاري، ومن خلفهم الرجل الذي يؤدون أمامه قَسمَ الإلتزام؛ ليسوا مستعدين لأن يتذكروا مجرد استذكار، أن هناك وثيقة دستورية، ناظمة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأن هذه الوثيقة تقول في مادتها التاسعة والسبعين "لا يجوز لرئيس الوزراء أو لأي من الوزراء، ممارسة مهام منصبه، إلا بعد الحصول على الثقة به من المجلس التشريعي"!
هي إذا، إحدى حكومتين لسلطتي أمر واقع قائمتين في الضفة وغزة، بلا أي سند دستوري أو تفويض شعبي أو تعليل تاريخي مقنع. فلا موجب أصلاً لرسم مشهد حلف اليمين، لأننا بصدد حكومة، لن تخرج وظيفتها، عن حدود كونها محض غطاء، يحجب عن الأنظار ركام المؤسسات المدمرة.
ولأن هناك فارقاً بين غطاء ترتاح له العين، وآخر يزيد شكل الركام قُبحاً؛ كان أعضاء مركزية فتح العباسية، ومعهم محبو وأصدقاء محمد اشتية، يطمحون الى تشكيلة تُحسب لحركة فتح ولا تُحسب عليها، وتقدم جديداً، وتعيد القليل من الإعتبار للحركة التي أطاح عباس مكانتها الإعتبارية، واحتقر أطرها. كان المُرتجى أن تخرج تشكيلة حكومية قادرة، في حدود بؤسها الموضوعي في مكانها وظروفها، على أن تطوي أو تعالج بعض تفصيلات أمراض الحكومات التي سبقتها، على المستوى الذاتي الفلسطيني، وهذا ما أوحت به في البداية، حماسة المكلف بالتشكيل.
عندما نخرج من العموميات، وندخل في صُلب الموضوع؛ نلاحظ أن شكل الحكومة يؤكد مرة أخرى، من خلال نواقص وزوائد وثوابت التعيينات، على نفاذ سلطة عباس المطلقة، والموسومة عادة بكل طبائعها الذميمة ونزعاتها. فمن الواضح، في النواقص والزوائد والثوابت أيضاً، أن محمد اشتيه اصطدم بالشرط الأساس، وهو عدم اللعب في المساحات المغلقة للسيد الرئيس. ولأنه يريد اللقب مهما كان الشرط ــ مثلما تؤكد التشكيلة ــ فقد أدار ظهره فعلاً للجنة المركزية العباسية التي زكّته، عندما وجدت نفسها مضطرة الى البحث عن دور، يساعد على تعيين الفارق بين حكومة تُحسب على فتح اعتباطاً، وأخرى تُحسب لها فعلاً. ولم يكن هذا المنحى، عند "المركزية" يمثل أي قدر من الاعتراض على عباس أو مناكفته، وإنما هي رغبة في أن تتحسن المكانة الأدبية للحركة، ويتعزز دورها، وهذا أمر يفيد عباس في المحصلة. لكن هذا الرجل، لا يثق بأحد، ولديه حساسية ونفورٌ تاريخيان، من اللجنة المركزية ومن أوزان الشخصيات، وعندما آلت اليه الأمور، أظهر ميلاً للدجاجات وكراهية للديكة!
برهنت نواقص وزوائد وثوابت التشكلية، على بؤس هذه الحكومة، وأكدت مرة أخرى على سلطة عباس المطلقة التي أوصلت النظام السياسي الى الحال المزرية.
وتنعكس النواقص، في حجب التكليف، عن حقائب الداخلية والأوقاف، انتظاراً لخيارات رئيس السلطة. أما الزوائد فتنعكس أساساً في تسمية نائب رئيس حكومة لم تُعرف عنه الإفادة في شيء، أو القدرة على الإفادة في شي، سوى كونه ممثل مجموعة المجالسة اليومية للسيد الرئيس. وبالتأكيد، لم يكن إشتيه سعيداً بوجود هذا العنصر، كإسم يحل ثانياً بعده في الترتيب. ومعلوم أن من يجالسون عباس يختلفون عن خيوله.
فالأخيرون مخصصون لتنفيذ الرغبات، في وزارات المساحة المغلقة للسيد الرئيس، كالخارجية والمالية أساساً، وفي جوارها الأوقاف. أما الثوابت، فإنهم أولئك الذين تنحصر وظيفتهم في كونهم سواتر عمل للرئاسة والمخابرات.
فالمكلف بحقيبة المالية، معلومة شروط تكليفه أو استمراره في موقعه. وكان موضوع هذه الحقيبة، هو سبب الإشكال مع سلام فياض في العام 2013 عندما استقال نبيل قسيس وزير المالية وموفد الرئيس الى الوزارة، احتجاجاً على تقييد فياض لصلاحياته. في ذلك الوقت، لم يلب فياض الشرط واضطر للاستقالة وظلت "المالية" في قبضة عباس. أما المكلف بحقيبة الخارجية، فالشرط الساري عليه للتكليف وللاستمرار؛ أن يلبي الشروط، وأهمها ألا يكون قادراً على حسم أي أمر إداري أو ديبلوماسي، وأن تكون المخابرات، عبر الرئاسة، هي التي تحسم قرارات التعيين، وفي هذه الحال، يصبح بمقدور عنصر من جهاز المخابرات، في محطة لها، قادراً على إقتلاع السفير إن أراد. وبالطبع ودون أن نسأله، لم يكن اشتيه سعيداً ببقاء الوزير الذي يلبي الشرط الرئاسي!
في إطار حكومة مسخ، بهذه الشاكلة، يتاح لرئيس الوزراء أن يلعب بالمقصقص، مدركاً أنه لن يستحوذ على التيار، ممثلاً في صلاحيات التمكين والتغيير، وهذا ما لم يدركه رامي الحمد الله، الذي توهم أن بعض ما أتيح له في ملعبه، في جامعة النجاح، سيتاح له في ملعب السيد الرئيس، وأين؟ في حكومة ينبغي أن تشبه زمنها، ولا يراد لها أن تنجح في شيء!