عدة ليال مضت، وعينا عمر أبو ليلى بطل عملية سلفيت تحدق بي، تحمل ذكاء وتحديا يشع في قلب من يراه، لم أستطع النوم، أمام بطولة فردية، كان لا بد أن تترك اثرها، جاءني غسان كنفاني، مسيطرا على لحظاتي كلها، رغم رحيله عن عالمنا منذ 46 عاما، لأن سؤاله الفلسطيني، ما زال يدق في رؤوسنا: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ في روايته الأساس "رجال في الشمس".
هذا السؤال، انفلت في عقلي، لحظة مشاهدتي صورة الفتى على صفحات الفيس بوك، لم أستطع أن أكتب شيئا هناك، ولم أشارك صورته، لأني حزين وحزين جدا، حرام هذا الموت لهذه الحياة المتدفقة، التي كان يمكن لها أن تعطي الكثير، لبلاد تحتاج أمثاله.
لم يعد الرثاء لبطولة غادرت معنى، المعنى يكمن في الانتشار، وتنوعه حتى تكون البطولة بلادا ومستقبلا. على جدار في خلفية إحدى صور أبو ليلى نقرأ عبارة من غسان كنفاني «احذروا الموت الطبيعي، ولا تموتوا إلا بين زخات الرصاص» وقد ذهب أبو ليلى ليلاقي الموت بين زخات الرصاص، في عملية ثلاثية، ولنا أن نفكر في شجاعة الفتى الذي طعن جنديًا واستولى على سلاح الثاني ثم استولى على مدرعة. لقد دق جدار الخزان بقوة.
هناك الكثير من نماذج البطولات الفردية فلسطينيا، نقف أمامها بكل الحب والاحترام، ونشعر أننا جبناء في زمن أكثر جبنا، انفلتت فيه الرؤيا، وأصبح العدو صديقا، والصديق عدوا، وأصبحت بعض الأنظمة العربية، مطايا للصهيونية تنفذ مخططاتها، دون أي تساؤل عن مستقبل شعوبها، المستقبل المستهدف، من أكثر الرجعيات العالمية خطرا، الصهيونية والولايات المتحدة الأمريكية.
تساؤلات كثيرة تطرح نفسها من هذه المواقف، وهي مرتبطة في ذهني، برؤية تاريخية رسخها أدب غسان كنفاني، في أكثر من عمل إبداعي، خصوصا ثلاثة أعمال روايتي "رجال تحت الشمس" و"ما تبقى لكم" والقصة القصيرة "العروس" من مجموعة "عالم ليس لنا".
تحمل تلك الأعمال الدعوة للبدء في العمل، وكلها تنطلق من الفردي إلى الجمعي، وكلها تطرح سؤال البدايات. أبو ليلى وجه دعوة عملية في هذا السياق، مع فارق أن كنفاني كان يضع الحاجز الصهيوني وبعض الأنظمة العربية عائقا أمام هذه البدايات، بينما يضيف أبو ليلى حواجز جديدة منها حاجز السلطة الأمنية في رام الله، وحاجز السلطة الرجعية في غزة.
النظرة في عيني أبو ليلى، حرمتني النوم، وجعلت أعمال كنفاني تعود إلي بقوة أبكتني في وقتها، وبقيت صورتها محفورة في عقلي طوال أكثر من 40 عاما عندما قرأت القصة القصيرة "العروس"، ومشهد ابن قرية شعب، يبحث عن بندقيته التي حصل عليها من خنادق الأعداء، فسرقها ضابط وباعها لفلاح، زوج ابنته من رجل نتن للحصول على ثمن البندقية.
يصف كنفاني الباحث عن بندقيته المسروقة بكل إحالاتها السياسية بقوله "رأيته مثل انسان ضيع شيئا، كان يسير محنيا بعض الشيء ، بكفين مفتوحتين متحفزتين، وعينين تنقبان في وجوه الناس، كأنهما محراثين عتيقين. لقد بدا لأول وهلة وكأنه مجنون".
عينا أبو ليلى ،في كل الصور التي نشرت له، كانتا هذين المحراثين اللذين شقا صدري. عينا أبو ليلى وعينا الباحث عن العروس، تعيدنا إلى البداية الأولى، مع إضافة صف جديد من الأعداء، من عظم الرقبة، يتطلب من كل من بقي لديه بذرة حب للوطن، أن يتساءل: إلى متى تقف حماس والسلطة، في وجه الشعب، وكيف تتحول الثورة من دعوة الحرية، إلى قمع جماهيرها، وخدمة مصالح الأعداء.
منذ متى يصبح القادة أصحاب رؤوس أموال، ينكفئون على مصالحهم دون وازع أو ضمير.
كذلك الفصائل اليسارية التي التحقت بصفوف اليمين بمواقفها، أما آن الأوان لها أن تقف، وتضع برنامجا كفاحيا مشتركا، يقترب من الناس بدلا من الوقوف كأوصياء على الوعي.
هذه هي الدعوة الأخيرة من رسائل كنفاني التي وصلتني من روايته "ما تبقى لكم" وبالتأكيد ليس القبول بالذل فنحن بحاجة للمحراثين العتيقين.