على رغم مرور نحو أسبوعين على جولة المفاوضات الأميركية – الكورية شمالية بقيادة رئيسي البلدين، إلا أنها تستحق وقفة من عالمنا العربي، ومحاولة فهم دروسها ودلالاتها بالنسبة إلى أدائنا السلوكي الخارجي عموماً والتفاوضي الدولي خصوصاً. فكما هو معروف فشلت هذه الجولة التي عقدت في العاصمة الفيتنامية هانوي، وتم اختصار الاجتماع وبعض جوانبه المراسمية، وخرج ترامب معرباً عن عدم سعادته للإخفاق في التوصل إلى اتفاق بين الجانبين، ولعل أهم أبعاد الخلاف أمر معروف إعلامياً، فقد كان ترامب يسعى للخروج بشكل سريع بموافقة كوريا الشمالية على إزالة لترسانتها النووية، واشترط الطرف الآخر أي الرئيس الكوري رفع العقوبات أولاً، ومع ذلك لم تكن تصريحات الطرفين حادة بل مجاملة بشكل واضح، وحرص ترامب على مواصلة اللهجة الودية تجاه كون جونج أون، مؤكداً أنه أي الرئيس الكوري ما زال على وعده بعدم إجراء تجارب نووية، وهو ما تحيط به تساؤلات حالياً، وأكمل ترامب أنه لا حاجة لفرض عقوبات إضافية على كوريا الشمالية، رغم أنه لم يتفق الجانبان على موعد لاجتماع مقبل.
في مرحلة سابقة وتحديداً يوم انعقاد القمة الأولى بين الرئيسين ترامب ويونج، أشرت في موضع آخر إلى بعض الدروس المهمة، وأبرزها كيفية التصعيد الأميركي – الكوري الشمالي كتكتيك تساومي، بدا للبعض وكأننا على أعتاب مواجهة نووية بين الطرفين، بينما كان الأمر في الحقيقة ضغوطاً وتصعيداً متبادلاً بهدف التفاوض، واقتناع الجانب الأميركي بندية وقوة الطرف الكوري الشمالي، فأراد ترامب تكثيف ضغوطه وتهديداته الكلامية لإخراج مشهد التنازل المشترك وكأن النظام الكوري سيبدأ التفاوض من خشية التهديدات الأميركية، ولقياس مدى صلابة الطرف الآخر، وهو ما نجحت كوريا الشمالية في إفشاله باقتدار وحرفية عالية، وعودة كوريا الشمالية للتصعيد والمناورة أمر يؤكد استمرار تأكيدها لنديتها. كما أشرت أيضاً إلى أن الشواهد تشير إلى أدوار دولية عديدة في تبادل الرسائل والتطمينات والوساطة بين الجانبين، خاصة الصين وكوريا الجنوبية وروسيا، وربما أطراف أخرى، وأشرت إلى أنه من المهارة السياسية لبكين تشجيع حليفتها الكورية على تسوية تضعها في مسار تجربة مشابهة لمسار الصين السياسي الاقتصادي، وتحقيق تهدئة دولية وإقليمية أكبر، تتيح لها القدرة على مواصلة نموها واستنزاف طاقات خصمها الذي لا تريده خصماً تقليدياً، أي ترامب، فحساباتها أن خدمة مصالحها تكون بمزيد من العولمة وحرية التجارة الدولية.
على أن التعسر الحالي يؤكد درساً مهماً ربما لم يتم تناوله في بداية الأزمة، فترامب أدرك طبيعة الأزمة والصراع مع كوريا الشمالية، وأن هذا الصراع محمل بأبعاد وضغوط نفسية هائلة على الطرفين خاصة الكوري الشمالي بتأثير العزلة والشكوك واستمرار العقوبات، وهو ما كشفت عنه تصريحات عديدة لجونج تستشهد بتجارب عربية كالعراق والقذافي، تعتبر إزالة سلاحها من أنماط الدمار الشامل مقدمة للإطاحة بهذه النظم، ومن ثم لجأ ترامب إلى نهج إدارة أغلب خيوط الأزمة بيده، بمعنى التصعيد النفسي وإحداث ضجة عالية تعطي الانطباع بأنه لن يتوقف ولو شن حرباً نووية – وكأن هذا احتمال ممكن– ثم بدأ التفاوض بنفسه في موضوع بالغ الصعوبة ولا بد أن تتفرع منه تفاصيل فنية معقدة تحتاج إلى مفاوضين محترفين ومتخصصين في مجالات نزع السلاح، ما يهم ترامب في المراحل الأولى كأي صانع قرار رئيس في مفاوضات دولية مهمة أن يخرج منها منتصراً داخلياً في بلاده، ولأن ترامب أيضاً يواجه أزمات داخلية عديدة تقترب من تحديات لحكمه حالياً فهو بحاجة لنصر خارجي كبير، خاصة أن كل وعوده الخارجية لم يتحقق منها إلا كل ما سبب مزيداً من الانتقاد الخارجي له والكثير من الداخلي كذلك، من ذلك الخروج من اتفاق التغير المناخي، استمرار التأجيل في الموضوع الفلسطيني، تعسر بل ودرامية موضوع الجدار بين حدود بلاده والمكسيك، والذي دخل أطواراً معقدة، الانسحاب من سورية ثم الإبقاء على بعض الوجود بعد غضب داخلي وخارجي واسع، وأيضاً أزمة العلاقة مع روسيا، كل ما سبق يعني أن الرجل يحتاج إلى إنجاز خارجي ضخم، ولا شك أن نزع سلاح كوريا الشمالية النووي – لو كان ممكن الحدوث – فسيعني إنجازاً خارجياً ضخماً في العالم الغربي، ولدى كثير من دول آسيا. وضع ترامب نفسه بالتالي في قلب أخطر نماذج مفاوضات القمة التي أثارت قلق بعض الخبراء والباحثين الذين تقلقهم مشاركة القادة في التفاوض، ما قد يؤدي إلى تورطهم، أو اضطرارهم بسبب عدم صبرهم على التفاصيل إلى عمل تنازلات غير مريحة لبلادهم، أو اتخاذ إجراءات تصعيدية عندما لا يتحملون ضغوط هذه النوع من التفاوض الصعب، فضلاً عن أنهم، أي القادة، أكثر حساسية للرأي العام في بلادهم مقارنه بمندوبيهم للتفاوض سواء كانوا ساسة أو ديبلوماسيين، وهذا طبعاً في مواجهة رأي آخر يرى أن القادة أقدر على صنع القرار التفاوضي السريع والحسم، وعموماً أياً كان هذا الجدل وعلى الأقل الآن خرج ترامب هادئاً، ومستعيناً بخبرات تفاوضية طويلة في مجال حياته كرجل أعمال ناجح، بإعلان التعسر وترك الباب مفتوحاً، وكان هذا تصرفاً حكيماً يستحق التنويه، ويعني أيضاً أنه أدرك أكثر إلى أي حد صبر وحذر الطرف الآخر، وأن على واشنطن أن تقدم المزيد، ولا يكفي الوعود بمستقبل اقتصادي مبهر ينتظر بيونغ يانغ إذا تجاوبت معه. على أن عدم تحديد موعد يضيف لسجل ترامب الخارجي قلقاً إضافياً وعدم يقين من إمكانية تحقيق إنجاز خارجي سريع يساعده في مواجهة تحدياته الداخلية.
من الدروس المهمة كذلك لكل دول الجنوب، أن المفاوضات تحكمها اعتبارات كثيرة، وأن القوة نسبية، صحيح أن لدى كوريا ترسانة نووية مخيفة، ولكن لديها أيضاً عوامل ضعف عديدة، ولكنها لا تركز عليها بل تركز على قوتها، ولا ترهب القوة الدولية الأولى ليس فقط لأنها تعلم أنها تتراجع عن صدارة العالم، فربما يعلم ذلك أغلب قادة العالم، وإنما أيضاً لأنه ليس لديها أفكار وشعور بالدونية تجعل قادة بعض الدول غير قادرين على توظيف أدواتهم بشكل فعال، بمعنى آخر لا أقلل بالقطع مما تملكه كوريا الشمالية، ولكني أؤكد من ناحية أخرى أن الكثيرين، ومنهم نحن العرب وكثير من دول العالم نملك أوراقاً وبدائل للحركة ولكنها تحتاج إلى من يوظفها.
وأخيراً كل ما سبق لا يعني عدم إمكانية التوصل إلى تسوية للمسألة الكورية، بل ربما كان هذا هو الأقرب للتوقع، ولكنها لن تكون سهلة، وتؤكد الشواهد أن احتمالات تحقيق كوريا الشمالية نتائج إيجابية من هذه المفاوضات ستزيد على تلك السلبية بالنسبة لها، وأن التساومات والمناورات قد عادت إلى الساحة، وأن الأمر قد يستغرق بعض الوقت.
الحياة اللندنية