صادق مجلس النواب الأمريكى الخميس الماضى بأغلبية ساحقة على قرار يدين خطاب الكراهية بعد مساجلات حادة داخل الحزب الديمقراطى حول معاداة السامية على خلفية تصريحات أدلت بها النائبة المسلمة من أصول صومالية إلهان عمر، اعتبرت فيها أن بعض أعضاء جماعات الضغط وبرلمانيين يشجعون على الولاء لدولة أجنبية، مشيرة بذلك إلى لجنة الشئون العامة الأمريكية - الإسرائيلية (إيباك) جماعة الضغط الرئيسية المؤيدة لإسرائيل، وعلى الفور ارتفعت أصوات عديدة تدين هذه التصريحات، ووصلت الإدانة إلى الرئيس الأمريكى نفسه الذى وصف تصريحات إلهان بالمفزعة، غير أن إلهان وجدت من يدافع عنها، وجاء أقوى دفاع من بيرنى ساندرز المرشح الرئاسى السابق والحالى الذى صرح بأن معاداة السامية أيديولوجيا بغيضة وخطيرة ويجب أن تُعارَض بالولايات المتحدة والعالم، ومع ذلك يجب أن نفرق بين معاداة السامية وانتقاد الحكومة اليمينية فى إسرائيل التى يرأسها بنيامين نيتانياهو، وهو تصريح بالغ الأهمية لأنه يجرد حكومات اليمين الإسرائيلى المتطرفة من استخدام معاداة السامية كسلاح للتغطية على جرائمها بحق الفلسطينيين، بل إن يهودا أرثوذكس مناهضين للصهيونية قاموا بزيارة إلهان عمر، وقال الحاخام دوفيد فيلدمان: نحن ندعم عمر قلبا وقالبا فيما تقوله من تصريحات بشأن إسرائيل، مشيرا إلى أن هناك حالة من التعاون والتضامن بينهم كيهود وبين آخرين من الجالية الإسلامية والعربية بأمريكا، وأضاف: اتهام الأشخاص بمعاداة السامية لمجرد حديثهم عن احتلال فلسطين لم يعد مقبولا، كما أن القيام بأمر كهذا باسم اليهود يلحق الضرر بهم حقيقة.
وقد انعكست هذه المساجلات على تعامل مجلس النواب الأمريكى مع المسألة، ففى البداية طرح قادة ديمقراطيون مشروع قرار يندد حصرا بمعاداة السامية، بل لقد كان هناك حديث حول إدانة إلهان بالاسم فى القرار، لكن اتجاها آخر اعتبر أنصاره أنها مستهدفة بصورة خاصة لأنها امرأة وسوداء ومسلمة وأبدوا خيبة أملهم من اقتصار الإدانة على معاداة السامية، وفى هذا السياق أُدخلت تعديلات على مشروع القرار بحيث جاء متوازنا، فقد أدان معاداة السامية باعتبارها تعبيرا بغيضا عن التعصب المناقض للقيم والتطلعات التى تميز الشعب الأمريكى، وأدان كذلك أوجه التمييز ضد المسلمين والتعصب ضد أى أقلية، وتمت الموافقة على مشروع القرار بأغلبية كاسحة (407 ضد 23)، وصوتت إلهان عمر لمصلحته، وكانت قد اعتذرت لليهود الأمريكيين لكنها حذرت من أهمية عدم تجاهل أنشطة جماعات الضغط الإسرائيلية فى الولايات المتحدة، ويُلاحظ أن القرار بصيغته المتوازنة هذه يواجه روح التعصب والكراهية التى ميزت بعض الممارسات فى الساحة الأمريكية أخيرا، غير أن ثمة أمرا آخر يعنينى فيما جرى وهو إلى أى مدى يعكس هذا تحولا محتملا فى مزاج الرأى العام الأمريكي؟ فيجب ألا ننسى أن بداية المسألة جاءت من نائبة لا شك فى حرصها على ألا تفقد تأييد ناخبيها ومع ذلك صرحت بما صرحت به بما يعنى أنها ليست خائفة من أن تؤدى تصريحاتها إلى غضبة قاعدتها الانتخابية، ويتسق هذا مع التقارير التى أفادت بأن الجدل الذى أثارته تصريحات إلهان يكشف عن أن ثمة فجوة بدأت تتكون بين جناح جديد وتقدمى فى الحزب الديمقراطى أصغر سنا، وبين المواقف التقليدية للأجيال الأكبر سنا فى الحزب، وإن كان بيرنى ساندرز الذى يقترب من الثمانين يتبنى هذه المواقف التقدمية ذاتها بما يعنى أن الأمر قد لا يكون ظاهرة سنية فحسب، وهى مسألة أحسب أن كل المهتمين بالتخفيف من انحياز السياسة الأمريكية لإسرائيل مطالبون بسبر أغوارها لبحث احتمال أن تكون إرهاصات لتطورات محتملة فى الرأى العام الأمريكي.
وقد حظى هذا الموضوع باهتمامى منذ شرفت بطلب الدكتور أيمن ندا أن أكتب مقدمة لعمله الموسوعى عن الدول العربية والإسلامية فى استطلاعات الرأى العام الأمريكية (1935-2018)، وقد لفتنى بشدة فى هذا العمل أن اتجاهات الرأى العام الأمريكى تجاه قضايا الصراع العربي-الإسرائيلى ليست بدرجة التحيز نفسها التى تكشف عنها سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وأسوق للقارئ الكريم بعض الأمثلة عبر تاريخ ذلك الصراع، ففى استطلاع أُجرى فى ذروة الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى (يوليو1948) صوت 62% من المبحوثين ضد رفع الحظر عن بيع الأسلحة لليهود، وفى سبتمبر 1948 صوتت النسبة نفسها ضد إقراض أموال للدولة اليهودية، ورأى 54% إبان العدوان الثلاثى على مصر 1956 أنه غير مبرر، وبعد عدوان 1967 وافق 59% على أنه لا يجب إمداد إسرائيل بالأسلحة، واعترض 49% على إمداد إسرائيل بالأسلحة فى حرب أكتوبر (بلغت نسبة الموافقين 37%)، وفى مايو 1988 وافق 38% على إنشاء دولة فلسطينية على الأراضى التى تحتلها إسرائيل منذ 1967 واعترض 30% فقط، وفى 2001 أيد 77% إنشاء دولة فلسطينية مقابل الاعتراف بحق إسرائيل فى الوجود، وعند تفجر انتفاضة الحجارة فى آخر 1987 رأى 50% من المبحوثين أن إسرائيل استخدمت القوة على نحو مفرط بينما بلغت نسبة من اعتبروه مناسبا 23% فقط، ورأى 52% فى أبريل 1988 أن تدمير بيوت أسر المشتبه فى تورطهم فى أعمال عنف ضد إسرائيل خطأ، بينما رأى 6% فقط أنه صواب، وأخيرا وليس آخرا فقد اعترض 45% على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل مقابل موافقة 44%، كما اعترض 49% على نقل السفارة، بينما وافق 36%، وقد قصدت من هذه الأمثلة ومثلها المئات أن أثير فكرة أن الرأى العام الأمريكى ليس بالانحياز الذى نتصوره لإسرائيل، وهو ما يعطى للتطورات الأخيرة فى مجلس النواب الأمريكى والحديث عن جيل جديد وتقدمى من الديمقراطيين دلالة خاصة ويفتح أمامنا سبيلا جديدا للحركة من أجل محاولة كسب الرأى العام الأمريكى فى اتجاه أكثر تفهما لقضايانا.
الأهرام المصرية