يختزل الشهيد الصبي محمد إبراهيم أيوب، الذي قضى خاويَ الأمعاء، مشهد الأوقات الراهنة في غزة، بينما الشهيد الشاب الألمعي، فادي محمد البطش، عالم الطاقة، الذي خرج من غزة نفسها لكي يرتاد آفاق العلم ويتسزيد من المعرفة؛ يختزل فكرة المستقبل الفلسطيني والتحقق الحضاري لشعب ذكي وصابر ومكافح!
شهيد مسيرات العودة، الفتى الصغير محمد، لم يضطره الجوع الى رمي بوصلته الوطنية ولم يقبل انحرافها. تلقى من أبيه، وهو مُسَّجى بعد أن فارق الحياة، إعتذاراً موجعاً لكل الضمائر الحية. قال له الأب، سامحني يا بُني، فلم أستطيع تأمين لقمة الخبز لك. أما الشهيد الثاني، فادي محمد البطش، الألمعي الخلوق ذو الصوت الجميل في التلاوة، فقد تعقبه وأحدٌ من القناصين الذين قتلوا الأول، وأطلق على رأسه الثمينة وصدره النقي أربع عشرة رصاصة.
لكن أولئك الذين يقتلون الأحرار، وهؤلاء الذين يجوّعون الأطفال، ويختطفون تمثيل الضحايا والأحياء، يعرفون أن شعب فلسطين لن يموت، ولا يكفي رصاصهم كله، للإجهاز عليه، مثلما لن يستطيع منتحلو رمزيات فلسطين تضليل أحد. فقد بات اللعب على المكشوف، وفي الوقت الذي يعلو فيه منسوب الغضب والأحزان، فإن سنن الحياة والتاريخ، لا محيد عنها، والقتلة ذاهبون حتماً الى مزابل الزمان. أما الفاسدون الفاجرون فإنهم سيندحرون معطوفين على تاريخ القتلة الأوغاد!
لقد وصلنا الى مرحلة تحويل مشهدي قتل المتظاهرين العُزل، وتجويع المواطنين الكرماء الذين بذلوا الدم وتحملوا البلاءات من أجل الحق الفلسطيني، الى وجهة سياسية، تحثها الرؤية الصافية الصحيحة للمَشْهَديْن. وبات على بقايا موالي الفصائل، أن تلتحم بجموع الهادرين اينما كانوا، أو الصامتين كاظمي غيظهم أينما كانوا، لكي يتقدم الفلسطينيون على طريق الحرية والاستقلال الوطني والتحقق الحضاري والدولة العادلة!
إن لقطة الشهيد الفتى، في خلفياتها وتفصيلاتها، تقدم البراهين الدامغة على تداعيات الظلم التاريخي لشعب فلسطين وعلى حقارة العدو وإجرامه وتنصله من أبسط القيم الإنسانية، وعلى لا صلاحيته للبقاء في منطقتنا. كما تقدم اللقطة كل البراهين على سفاله الحكم الفردي لمحمود عباس، الذي لم يكلف نفسه حتى أن يتحايل على ممارسات خنق غزة وتجويع أهلها ومحاصرتها، وأن يتكتم على مقاصده، وإنما راح يصارح بمقاصده ويفاخر بها، دون أن يجد جباناً واحداً من الجبناء الذين حوله، يحثه على أن يرعوي وأن يقول له إتق الله أيها الطاعن في السن، فلا منطق في التذرع بحماس، التي جئت بها أنت نفسك، الى قفص السلطة، وأدخلتها أنت نفسك الى المصيدة لكي تأكل غزة، وتواطأتَ أنت نفسك في ذلك مع المحتلين ومع الأمريكيين، حسب ما كتب قبل ساعات، نائب رئيس تحرير صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية جدعون ليفي، وأكد على ما قلناه سابقاً!
حتى الآن، لم يبدأ المؤرخ المُفترض في كتابة الحكاية. فلا زال يراكم القرائن، التي تتفشى واحدة بعد الأخرى، وتؤكد على أن غزة رُميت ثلاث مرات. واحدة عندما رماها شارون بالانسحاب وإبقاء الحصار، وهي الرمية التي اضطرته اليها المقاومة الباسلة. وكان العدو يأمل، في غمرة بهجتنا بطرد العدو، أن ينشأ في غزة مشتل لزراعة الأوهام وتسويق الكلام الأطول بكثير من سيوفنا، بينما يعرف هذا العدو، أن الطبقة السياسية الفلسطينية، ستنقسم الى خطين لصالحه، واحد يضع نفسه تحت جزمة الاحتلال ويخدمه مثلما صرّح عباس نفسه، وآخر يوهم الناس أنه سيحرر الأندلس بعد فلسطين، فيخلق بمعايير شارون "مشروعية" قصف غزة بطائرات الحرب الحديثة الفتاكة، ويخلق للخط الأول "مشروعية" تجويعها وحصارها، بمعايير العدو نفسه، حتى أصبح التجويع والحصار يتجاوز الآن، تلك المعايير، وفق رؤية العدو نفسه!
الرميتان الثانية والثالثة لغزة، كانتا بيد عباس. ففي الثانية رماها في حِجر حماس التي تلقفتها بكل غرور وضجيج خطابي وغلاظة مع المجتمع، بينما في الثالثة، رماها عباس وحده، بحماسها وفتحها وفصائلها وشعبها ومرافقها، وبات لا يتقبل منها إلا ثروة الغاز في ساحلها!
طوبى لشهداء مسيرات الأرض والعودة وتصحيح البوصلة، وطوبى للأحياء إن قرروا الأخذ بناصية الحق مع الوعي بمسالك الوصول اليه!