معلوم أن حماس تكابر دائماً ولا تتقبل النصيحة، ومعلوم أن ما يجري في دواخلها له بعض أسباب تعثرها وتشوهات أدائها. إن بعض ما يصدر عنها نتفهمه بحكم معرفتنا للتعقيدات والظروف التي تواجهها. لكن التصرفات الخرقاء، لا تساعدها ولا تساعدنا على إحداث نقلة نوعية إيجابية في العمل الوطني، بل إنها تفاقم مأزق حماس مع الناس!
في الآونة الأخيرة، انعقدت الآمال على حماس في غزة، ولا تزال معقودة؛ لكي تتشارك مع الوطنيين، في تهيئة مسرح الأحداث لمراكمة عناصر النظام السياسي الذي تتمناه فلسطين في وطنها وشتاتها. ولهذه التهيئة مقاربات ووصفات يطول شرحها. لكن غزة التي رآها المرحوم الحاج أمين الحسيني وأصحابه، تصلح مكاناً لوضع الأساس لنظام الدولة الفلسطينية المرتجاة، في زمن محاولات آخرين اختطاف تمثيل الفلسطينيين؛ لا تزال هي المكان الأصلح لبدء النهوض الوطني الفلسطيني. فقد حدث في العام 1948 انسداد تام، في وجه الحركة الوطنية الفلسطينية، بعد انتهاء الحرب، ولم يتبق أمامنا إلا الفسحة الجغرافية ــ السياسية التي تمثلها غزة. وفي يوم 23 سبتمبر من تلك السنة، ارتجلت القيادة الفلسطينية إطارها الذي سمته "حكومة عموم فلسطين" برئاسة المرحوم أحمد حلمي عبد الباقي. وفي اللحظة نفسها التي أحس فيها المرحوم الحاج أمين الحسيني وجماعته، أن هذه حكومة بلا تفويض يعطيها المشروعية، دعا الرجل الى مؤتمر وطني ذي حيثيات تمثيلية معتبرة، ينعقد في غزة بعد سبعة أيام لا تزيد ساعة واحدة. وبالفعل إفتُتح المؤتمر الوطني الفلسطيني في الأول من أكتوبر 1948 برئاسة الحاج الحسيني، رئيس الهيئة العربية العليا، وبمشاركة ثمانية من أعضاء الهيئة، وعشرة من رؤساء البلديات، وأربعة عشر من رؤساء المجالس المحلية، وواحد وعشرين من مندوبي اللجان القومية أثناء معركتنا مع الصهيونية في بلادنا، واثني عشر من أعضاء الوفود التي انتدبت في الماضي للدفاع عن القضية الفلسطينية في أوروبا، وأربعة ممثلين لنقابات المهندسين والأطباء والصيادلة والمحامين، وعدد من مشايخ العشائر الفلسطينية.
في ذلك الوقت، كان هناك أيضاً توجهات مضادة. ففي يوم افتتاح مؤتمر غزة، انعقد في العاصمة الأردنية عمّان، مؤتمر مضاد يتصدره فلسطينيون مستريحون، يحتضنهم التوجه المعترض على تمثيل الشعب الفلسطيني لنفسه. من ذلك الدرس وغيره، وبسبب انحراف البوصلة، بعد سبعين عاماً من مستوى راق للأداء السياسي الفلسطيني الذي نفتقده اليوم، بتنا نتطلع الى عمل جاد وشجاع ومشروع، لإعادة مؤسسات الحركة الوطنية الفلسطينية الى الحياة، بعد أن قتلها عباس ويريد أن يرقد في قبره معها. اليوم لا نجد بديلاً لخدمة فلسطين وشتاتها، إلا تخليص شعبنا أولاً، من التيار المتنفذ الفاسد والمتخلف!
لكن أداء حكم حماس في غزة، ظل متدنياً في مستواه. ففي موضوع المتفجرة، كان الأداء حِكائياً وليست فيه حيثيات. يُجزل الوعود ولا يَفي بها، وكأن الرأي العام الفلسطيني يقبض تصريحات الناطقين الحمساويين، ويكتفي منهم بالتلميح. وللأسف، كانت التصريحات تتظاهر بالجسارة والشفافية دون وضع النقاط على الحروف. وفي خلفيات الأمور بدا أن أكثر المحرمات عند حماس أن تعترف بوجود اي خلل عندها، أو تعترف بوجود بؤر في داخلها تظلمها كلها. كأن الاستفادة من مساويء نظام عباس، وهي متاحة لحماس في الكثير من الحالات؛ كافية لحسم الأمور لصالحها دون المبادرة الى التخلص من المساويء في داخلها وداخل غيرها دون أن نستثني داخلاً. ففي أمر المتفجرة، لم يُعرض على الرأي العام، أن هناك تحقيقاً مهنياً وشفافاً قد جرى، أو الى أين وصل، ولا إعلانَ عن نتائج. الشي الوحيد الشفاف الذي شوهد هو قتل الشباب ومواضع إصاباتهم!
بسبب حساسية حماس حيال أوضاعها الداخلية ورعونة التصريحات، فقدت للأسف النقاط الموضوعية التي لصالحها في موضوع الانفجار، كأنها تقبلت ذلك، ورضيت أن يعلو منطق إدانتها كلها بتدبير التفجير، مقابل ألا تعترف بوجود حالات خاطئة في داخلها، يمثلها أوباش يمكن أن يفعلوا أي شيء لأجل مصالحهم وارتباطاتهم الخاصة. وعندما أرادت حماس إظهار حزمها وحسمها، استقوت على الطلبة الفقراء، الذين يتظاهرون على الجبهة الاجتماعية. فبدل أن تقول، من وحي ما تزعمه لنفسها من ثقافة إسلامية، إن كل بلدان العالم تعلّم النبغاء من أبنائها مجاناً، وأ، في كل بلد في العالم هناك جامعات للشعب وجامعات استثمارية خاصة، وأن شعبنا يستحق ولو جامعة حكومية واحدة يتعلم فيها أبناء الفقراء بالمجان؛ إنهالت بالهراوات على رؤوس الطلاب. فكيف يمكن لمنظومة حكم بهذه الرعونة والبوصلة العبيطة، أن تساعد في إنصاف الشعب الفلسطيني، على مستوى سعيه لإحراز نظام وطني عادل ورشيد يحكم على أسس وطنية ودستورية وقانونية؟! فحماس التي ينبغي أن تكون، في الفضاء الفلسطيني، ليست هي حماس التي تكتفي بمصالحة مصر ولآخرين، وإنما التي تساعد على نهوض وطني فلسطيني، وعلى البدء بخطوات تعيد الاعتبار لشروط الحكم الراشد وللعدالة!