سريعاً مرَّ ربع القرن، على غياب أبي منذر، أحد أطهر الرجال في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية وأنبلهم وأشجعهم. غادر الرجل دنيانا قبل أن يحقق أمنيته الأخيرة، التي سكنت قلبه وعقله، وعبر عنها بحماسة متوقدة: التوغل في الوطن ومباشرة العمل المقاوم بنفسه، حتى النصر أو الإستشهاد!
هو صبحي أبو كرش، الفلسطيني الغزي من الشجاعية، الذي رأى أن كل وطني فلسطيني مكتمل الهوية، له الحق في امتلاك بطاقة الدخول الخضراء، الى قلبه العامر، طالما أن بوصلته هي فلسطين الوطن والقضية!
أبو منذر، الرجل الذي كان لي شرف رفقته، اختصر كل دنياه وكل أمانيه وأقصى أحلامه، إن كُتبت له حياة ولم يرتق شهيداً، في متطلبات بسيطة زاهدة، في إهاب ظل نخلة أو زيتونة، ودار بسيطة، وطريق الى استرجاع ذكريات الطفولة، والوصول الى المسجد الأقصى للصلاة، في وطن حر ومتواصل اجتماعياً وجغرافياً.
عاش الرجل في كل أحلامه وألفاظه، متماسكاً على ليونة، حاداً وقارصاً في سخريته من الغث والسخيف والفاسد. يألم على وطنه كما يألم القلب المجروح، وتنمُ ردود أفعاله التلقائية، على كل ضلالة وضعف؛ عن تقوى عميقة وثورية حيّة نزِقَة في اندفاعها المشدود كالتوتر. كان أبو المنذر جميلاً في الموت، باسماً قبله، مستبشراً بالرضوان، رافضاً دفع الأكلاف للطبابة التي لن تُجدي ولا توافق قدراً نافذاً. فقد قُضي أمر الله في أمره، وارتضاه الرجل، دون أن يرف له جفن، إذ استفاد في لحظاته الأخيرة، من عقد القران القديم في أعماقه، بين الإيمان والشجاعة!
كان أبو منذر زاهداً متواضعاً، وأصبح نجماً دون أن يدري وأن يريد. فقبل بدء أعمال المؤتمر الخامس لحركة فتح (تونس أغسطس 1988) صعد اسمه الى العنان قبل الانعقاد، باعتباره الصاعد المؤكد الى اللجنة المركزية لحركة فتح. ومع بدء أعمال المؤتمر، كان الحاضرون الذين جاءوا الى تونس من أماكن متباعدة، ينهمكون في أحاديث جانبية تطغى على صوت المتحدث من فوق المنصة. وعندما جاء دور أبي المنذر لكي يلقي كلمته، ساد صمت بات. فمن لا يعرفونه، أو من يرونه عن بُعد ولم يجالسوه، أرادوا الاستماع لما سيقوله الصاعد الجديد المؤكد الى اللجنة المركزية، قبل الوصول الى بند الإنتخابات!
كنت قبل الوصول الى تلك اللحظة قد توقعت أن يكون الإستماع له منقطع النظير وشاملاً. سألته عن كل ما يرغب في قوله من أفكار، وقلت له لا تنشغل بإعداد النص والصياغة، كل ما في الأمر، سأكتب أفكارك وأتولى صياغتها، واذهب انت لتفاعلاتك مع الأعضاء، وهكذا كان!
وجدت أفكاره سيلاً جارفاً من الأسئلة الكثيرة الحارقة ومن مقاربات الأجوبة، في كل ما يخص المصير الجماعي للشعب وللثورة، أضفى عليها صوت أبو منذر، بعاطفته المميزة، نبرة شجن، مُرسلة من ذاتٍ رقيقة حساسة، حدّقت طويلا في الحال الفلسطينية، في ذلك الوقت، واكتوت من الغث الذي يلد غثّاً وسيظل يتناسل.
كان الرجل مسكوناً بهاجس القبض على المستقبل، وبتكريس منظومة أخلاقية لمسار الحركة الوطنية. وقد ظل ذلك نسغ فكرته وسيرته. احتضن أبو المنذر سؤال الغربة وعبّر عن لوعة الغياب وعن فجيعة الرحيل قبل العودة الى أرضه الأولى!
كثيرة هي ذكرياتي مع أبي المنذر، ومعظمها مما يصعب قوله. هناك لقطة واحدة قصيرة، تختصر الحكاية. فقد اقتنصنا معاً فرصة الوصول الى الحدود بين الرفحين، المصرية والفلسطينية المحتلة. كان هناك جداران متوازيان من الأسلاك. أمسك أبو المنذر بحجر كبير من "الزلط" وجرب رميه الى الجانب الآخر، لاختبار إمكانية إيصال قنابل F1 الروسية الى الشباب. كان أخي إبراهيم، لحظتها، على الجانب الآخر وقد جاء لكي يرانا. لو كانت الأنفاق قد حُفرت أيامها، لما استطعت منع أبي المنذر من الانتقال الى الجانب الآخر وأنا معه. يومها تأثر إبراهيم بالرجل الذي كان قد التقاه قبلئذٍ في منزلي خارج الوطن، وأطلق اسم منذر على إبنه البكر.
في لحظات الاقتراب من أوسلو، عاد يقول إنه لا زال يحلم بالدخول الى الأراضي المحتلة. ذكرته بيوم أن كنا على بعد أمتار من الأرض. داعبته بابيات قصيدة قديمة لمحود درويش بعنوان "ورد السياج":
بحرٌ أمامى، والجدران ترجمنى
دع عنك نفسك واسلمْ أيها الولدُ
البحر أصغر منى كيف يحملنى
والبحر أكبر منى كيف أحمله
ضاقت بي اللغةُ.. استسلمتْ للسفنِ
وغُص بالقلب حين امتصة الزَبدُ
بحر عليّ.. وفي الأبيض الأبدُ .. والعزف منفردُ
(رحم الله أبا المنذر، وللعلم حصل في المؤتمر الخامس على الترتيب السادس، رغم الحملة اليائسة عليه، بسبب وصفه بالتوجه الإسلامي، لم تنل منه كثيراً، أما محمود عباس فقد سقط ولم يحظ حتى بترتيب الثلاثين، ولأنه أوهم الزعيم الشهيد أبو عمار، أنه سيفتح الطريق الى الدولة، والى تنفيذ ما جاء في سورة قريش "الذين أطعمهم من جوع آمنهم من خوف" فقد أعطاه فرصة ومنحه الترتيب الحادي والعشرين دون أن يحصل عليه).
أحوال البلاد