لا تتحرك الأحداث في صراع الفلسطينيين مع الاحتلال ضمن خطوط مستقيمة، أو مصفوفة تفصل بين خاناتها حدود مدروسة واستنتاجات يقينية، الصراع أعمق من بنية المتصارعين وأكثر تعقيدا، والأدوار مركبة ولها منطقها الخاص الذي تشكل عبر اكثر من قرن من المواجهة واحتساب النقاط وربط هذه النقاط مع النواة التي انطلق منها الصراع.
لعل في عملية الهروب العظيم من سجن "جلبوع" عبر نفق ما يضيء على هذا التداخل، بحيث سيكون من السذاجة اعتبار إعادة اعتقال الأسرى نهاية للعملية، هذا كان احتمالا واضحا وممكنا، الجميع يعرف ذلك ويتوقعه في شروط الحصار وضيق المساحات ومحدودية وسائل المواصلات وإمكانيات "دولة" متوترة قامت على فكرة الأمن والتفوق العرقي المسلح.
لكن تمكن ستة أسرى من اختراق أحد أعتى السجون وأكثرها تحصينا، وحفر نفق بأدوات بدائية تحت بصر المنظومة الأمنية، كاميرات وتقنيات متطورة وسجانين، والخروج إلى الحرية في منطقة "معادية" تحت سيطرة الجيش ومستوطنيه واجتياز حقول المراقبة والتتبع والكراهية، هذا لم يكن متوقعا.
إعادة اعتقال الأسرى ليست الحدث، نجاح عملية الاختراق هي الحدث، تعرف سلطات الاحتلال ذلك تماما، تعرف في كل مرة تتأمل فيها مليار دولار تضخها كل سنة في الجدران والأسيجة والتدريب والتقنيات عبر "مصلحة السجون" في إسرائيل، وعبر سلسلة الاستعراضات التي تبثها حول تفوق حصانة منظومتها الأمنية.
تعيش هذه الدولة على بنية تحتية من خوف الآخرين، ومن تعزيز وهم خصومها بتفوقها، بحيث يتسلل الوهم والخوف إلى ثقافة أعدائها ويحدد سلوكهم.
ما فعله الأسرى الستة هو المساهمة في إفساد هذه البنية التي استثمرت فيها إسرائيل زمنا طويلا، واتكأت عليها في تسويق تفوقها وصناعة اليأس في مخيلة أعدائها.
ليس سرا أن "سلطات الاحتلال" تعتقل يوميا عشرات الفلسطينيين من بيوتهم عبر مداهمات ليلية شبه منتظمة، وأنها تعيد اعتقال العشرات بمن فيهم الذين حررتهم صفقات تبادل الأسرى، أو أسرى ما قبل "أوسلو"، أو أولئك الذين تحتجزهم تحت مسمى "الاعتقال الإداري" دون لوائح اتهام، هذا المعتقل الافتراضي الذي يجعل من كل فلسطيني معتقلا مؤجلا أو في طريقه للاعتقال، يتهاوى، الآن، أيضا أمام الأنفاق التي تحفرها إضرابات الجوع وإرادة المعتقلين.
أنفاق كثيرة تتفتح في معسكرات الاعتقال، أنفاق تحت أرضيات العنابر والزنازين، أنفاق إضرابات الجوع، وأنفاق انتفاضات الأسرى داخل السجون، وأنفاق الاحتضان الشعبي الذي يزحف من خارج الجدران.
منظومة الاعتقال الاحتلالية بأشكالها بما فيها عنصرية جهاز القضاء وفساده الإنساني تتعرض لضربات الأسرى من داخل "القلعة" نفسها وبأيدي الأسرى أنفسهم.
ما فعله نزلاء الزنزانة 5 في القسم 6 من معتقل "جلبوع" هو ضرب هذه المنظومة في قلبها الفاسد، وتفكيك ثقتها بنفسها من جهة ووهم قوتها لدى الجمهور من جهة أهم.
عملية "نفق جلبوع" تتواصل في وعي آلاف الأسرى على امتداد أكثر من 24 معسكر اعتقال ومركزا للتحقيق والتوقيف على امتداد فلسطين التاريخية، وتذهب عميقا في وعي الناس الذين ستعتقلهم أدوات الاحتلال، أو المعرضين للاعتقال وهم غالبية الشعب الفلسطيني.
الأيام الفلسطينية