على هامش القمة الـ 13 للاتحاد الأفريقي، التي عقدت في تموز/ يوليو 2009 في مدينة سرت التي باتت بجهود الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، أشبه بالعاصمة القارية بالنظر لكثافة المؤتمرات وغزارة القمم العربية والإقليمية والأفريقية التي شهدتها.
في هذه القمة جرى تحويل مفوضية الاتحاد الأفريقي، الى سلطة إتحادية أو حكومة إتحادية فاعلة، إستوجبت مصادقة برلمانات الدول الأفريقية والمراجع الدستورية المعنية في دول القارة السمراء، كما استدعت إدخال بعض التعديلات على القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي. وقد حظيت التوترات الأمنية في السودان والصومال والكونغو الديمقراطية بحيّز واسع من مناقشات القمة التي وضعت آلية خاصة بمعالجة النزاعات داخل البلدان الأفريقية.
على هامش القمة سألت الرئيس السوداني السابق عمر البشير عن التوترات المزمنة في إقليم درافور، وأجاب البشير:
إن قادة التمرد في دارفور يتبعون لذات القبيلة الحاكمة في تشاد، وبدلًا من أن تستخدم تشاد نفوذها القبلي لإيقاف التمرد في دارفور، فإنها إستخدمت نفوذها لدعم التمرد في دارفور، رغم إبرامنا عددًا من الاتفاقيات مع تشاد لمراقبة الحدود، ودائما كانت تشاد تنكص بها. وعندما أبرمنا إتفاقية طرابلس كان المراقبون من إريتريا وإثيوبيا وجرى استقبالهم في الأراضي السودانية، لكن حكومة تشاد منعت مراقبي إريتريا وإثيوبيا من التواجد في الأراضي التشادية، بحسب البشير.
وللمفارقة فإن إريتريا كانت لعقود قريبة جزءًا من إثيوبيا، وقد استقلت عنها رسميا عام 1993 عبر استفتاء برعاية الأمم المتحدة. لكن العلاقة الودية بين الرئيس الإريتري إسياس أفورقي، ورئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زيناوي، لم تمنع إندلاع حرب بين البلدين التوأمين خلّفت عشرات آلاف الضحايا بسبب نزاع حدودي بينهما صعّد حالة العداء بين إريتريا وإثيوبيا التي فتحت أبواب عاصمتها أديس أبابا لتكون مقرا مركزيا للمعارضة الإريترية ليومنا هذا.
كلام البشير حول ملف الصراع في إقليم درافور دفعنا لمحاولة جلاء القطب المخفية عبر استصراح أطراف الأزمة والوسطاء العاملين على سكتها. ففيما امتنع الرئيس التشادي إدريس ديبي يومها عن إبداء موقفه بحجة “فتح المجال أمام المساعي الحميدة للوسطاء”، إعتبر الرئيس الإريتري أسياس أفورقي “أن الوقت للعمل وليس للكلام”، لتكون آخر المحاولات بعد استصراحنا أمين الشؤون الأفريقية في الخارجية الليبية علي عبد السلام التريكي، مع رئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زيناوي الذي اعتبر أن ملف درافور هو “إشكالية قبلية في الأساس”.
جواب زيناوي فتح شهيتنا لحثه على الاسترسال في شرح إشكالية القبيلة هذه. وبابتسامة وجه عابس أكد زيناوي أن “الكلام سيكون بتوقيت مناسب”، ودعاني لزيارة أديس أبابا التي هي للمناسبة المقر الرسمي للاتحاد الأفريقي.
لكن التوقيت المناسب الذي لم يسمح بذلك اللقاء، رجّح قناعتنا بأن “الأساس القبلي” خصوصا كالذي ترعاه أجندات إقليمية ودولية، يقف خلف غالبية نشوء النزاعات على الشرائط الحدودية بين بعض الدول الأفريقية وأحيانا داخل الدولة الواحدة في أفريقيا وغيرها.
لكن تفجّر الصراع بين الحكومة الإثيوبية وإقليم التغراي، أعاد تحفيز الشهية. وقد حال دون محاولتنا مقاربتها وقتذاك مياه إقليمية ودولية كثيرة جرت وشكّلت المقدّمات الاستراتيجية لما شهدته وتشهده دول شمال أفريقيا والقرن الأفريقي.
جغرافيا، يتموضع إقليم التغراي المتاخم لحدود السودان، في شمال إثيوبيا، ويحده من الشمال إريتريا، ومن الغرب السودان، ومن الشرق إقليم عفر، أما من الجنوب فيحده إقليم أمهرة.
دستوريا، التغراي هو أحد الأقاليم التسعة في إثيوبيا التي تعتمد نظامًا فيدراليا يتمتع فيه كل إقليم بحكم ذاتي. لكن أبرز عيوب النظام الفيدرالي الإثيوبي، أن أقاليمه قسمت على أساس إثني، ما يسهّل اندلاع الحروب فيما بينها.
وعلى غرار نزاعات إقليم دارفور السوداني التي هي في الأصل بين رعاة ومزارعين، نشبت توترات ونزاعات بين إقليم التغراي الإثيوبي، وولاية القضارف السودانية تكرّرت فيها اعتداءات وغزوات أبناء التغراي ضد جيرانهم السودانيين، ما شكل ضمنا مسّا بسيادة السودان.
ليس سهلا على إقليم التغراي، الذي ينحدر منه رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ميليس زيناوي الذي تزعّم “تحالف شعوب إثيوبيا”، واستطاع السيطرة على التناقضات داخل التحالف، وحكم إثيوبيا وتحكّم بمفاصلها العسكرية والأمنية والاقتصادية، وفرض شوكته على كامل البلاد، بل وتحولت إثيوبيا في ظل حكم التغراي لنحو 20 عاما، الى دولة ذات نفوذ قوي متشعب الأسباب داخل أفريقيا وخارجها. ما دفع المنزعجين من سيطرة التغراي ضمن تحالف شعوب إثيوبيا، لأن يخفوا انزعاجهم لما بعد وفاة زيناوي وانتخاب “هيلي ديسالين” المنتمي لتحالف “شعوب جنوب إثيوبيا” خلفا له.
وخلال حكم ديسالين منحت الحكومة بعض أراضي “الأورومو” جنوب أديس أبابا لمستثمرين، ما أطلق شرارة احتجاجات عنيفة انتهت بإجبار ديسالين على الاستقالة التي دفعت بدورها “جبهة تحرير الأورومو”، إلى استبدال رئيسها “لما مغرسا” بجنرال الاستخبارات العسكرية “آبي أحمد”، الذي تحصّل أيضا على دعم “الأمهرو”، رغم معارضة التيغراي الذين صوتوا في المجلس المركزي ضد آبي أحمد، الذي استطاع تقديم نفسه للعالم، كرجل إصلاحي محارب للفساد، وداعم لحرية الصحافة والتعبير، ومطلق للسجناء السياسيين. وقد أطلق آبي أحمد على 2018 عام المصالحات ما جعله يستحوذ على جائزة نوبل للسلام.
لكن النقطة التي يقال أنها أفاضت كأس التغراي من آبي أحمد، هي التغييرات التي أجراها وشملت لأول مرة رئيس الأركان ومدير جهاز الأمن والمخابرات. إنها التغييرات التي قرأها التغراي استهدافا لهم كإثنية، باعتبار أن رئيس الأركان ومدير جهاز الأمن والمخابرات ومنذ استلام زيناوي دفة الحكم كانوا من عدادهم، إنها الخسائر التي ضاعفت خسارتهم برحيل زيناوي عام 2012.
الصراع بين الحكومة الإثيوبية وبين إقليم التغراي من جهة، وبين التغراي وإريتريا من جهة ثانية، معطوفا على التوترات بين إقليم التغراي والسودان من جهة ثالثة، يرسم بعض من أوجه الصراع المتفجر في القرن الأفريقي. إنه الصراع المؤسّس والمنطلق من شرائط حدودية متداخلة إجتماعيا واقتصاديا، حيث تنتشر قبيلة واحدة على ضفتي بعض الشرائط الحدودية، مثل قبيلة الزغاوة التشادية المتداخلة مع إقليم دارفور والمتدخلة فيه.
قبيلة التغراي وبفعل إمساكها بناصية السلطة لنحو 20 عاما، لعبت أدوارا كبيرة وخطيرة خلال حكم زيناوي، من بينها دورها في المجازر التي استهدفت أبناء اقليم “بنى شنقول” الإثيوبي القريب من السودان. إنه الإقليم الذي لأجل بناء “سد النهضة” عليه، نفذت الحكومة الإثيوبية فيه وبدءا من تاريخ البدء في إنشائه عام 2011 محاكاة للنهج الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، عبر خطة لتهجير السكان الأصليين من “بني شنقول” العرب، وتوطين أبناء قبيلة التغراي الحاكمة مكانهم، بهدف تأمين بيئة إجتماعية صديقة للسدّ.
سد النهضة المنتصب على هضبة بني شنقول، هو مسألة حياة أو موت بالنسبة لكل من مصر والسودان. لذلك نجدهما يعملان بلا كلل على استنفاد الجهود القانونية والسياسية والدبلوماسية لوضع اتفاق قانوني ملزم لإثيوبيا في تقاسم مياه النيل بما يضمن المصالح الاستراتيجية المائية لهما من جهة ولا يدفعهما الى خيار الحرب إلا إذا فرضت نفسها خيارا وحيدا متاحا.
بدون شك سيكون للحرب التي هدّد آبي أحمد بخوضها ضد التغراي إنعكاساتها وتداعياتها الخطيرة، إنها الحرب التي تستهدف ضرب الإقليم الحاكم لأكثر من 20 عاما. وهي الحرب التي قد تدفع إثيوبيا الى نوع من التحلل، وهي الحرب التي ستدفع وفق تطوراتها الميدانية أقاليم أخرى ربما الى خطوات انفصالية كالتي يهدد إقليم التغراي باعتمادها بعدما أعلن سحب اعترافه بالحكومة الفدرالية وتمردها عليها والعمل على إسقاطها.
وهي الحرب التي ستنعكس على الأمن الداخلي والقومي لدول الجوار الإثيوبي وخصوصا إريتريا والسودان وجيبوتي وغيرهم، وربما تنعكس حتى على شكل الخرائط الجغرافية لهذه الدول وفقا للاستراتيجية الأميركية في أفريقيا، خصوصا بعد فك أسر السودان من ضغوط العقوبات الأميركية الخانقة مقابل انخراطه في مسار التطبيع مع إسرائيل التي للمناسبة تطوق سفاراتها السودان من كل الدول المجاورة له. وهي الحرب التي قد يكون من ثمارها أيضا لجم إثيوبيا عن استكمال مشروعها في سد النهضة تحت طائلة التفكك.
لعل هذا ما عناه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بموقفه المثير للاهتمام، والسابق لاندلاع الصراع بين الحكومة الإثيوبية وقبيلة التغراي خلال مكالمته مع رئيس وزراء السودان عبدالله حمدوك وقوله “إن الوضع خطير للغاية لأن مصر لن تكون قادرة على العيش بهذه الطريقة. وسينتهي بهم الأمر بتفجير السد”. وخلال تلك المهاتفة المتلفزة أضاف ترمب “وقد قلتها وأقولها مجددا وبصوت عال وواضح، سوف يفجرون ذلك السد، عليهم أن يفعلوا شيئا ما”.
مما تقدم يتضح أن مصر لم تفجر سد النهضة رغم امتلاكها صاعق التفجير الذي أشعل ترمب فتيله الأولي. وربما ستجعل تطورات الصراع بين الحكومة الإثيوبية والتيغراي، والتحلّل الذي قد يصيب إثيوبيا بحسب خبراء متابعين، سيجعل من “السد” خبرا ماضيا ناقصًا خلافا لرغبات وضغوط استثمارات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان القلق على إثيوبيا من إقليم التيغراي، والمتخادم مع إسرائيل في القرن الأفريقي أيضا توخيا لتوسيع مروحة نفوذه، وبهدف لي ذراع مصر وتجويع السودان.