أسلم د. صائب عريقات الروح، وأصبح بين يدي الحكيم العليم، بعد رحلة حياة انقسمت الى مرحلتين، كانت أولاهما تتسم بالمثابرة على التحصيل الدراسي ثم التدريس، وبعدئذٍ ظهوره اللافت، بالكوفية الفلسطينية يوم 30 أكتوبر 1993 في مؤتمر مدريد، الذي بدأت به مقاربات التسوية وأولى عروضها. فمن تلك المحطة، انطلق صائب الى المرحلة الثانية من حياته، التي ازدحمت بخليط من العمل والألم والأمل والتفاؤل والخيبات، تماماً مثلما كانت طبائع السنين، منذ بدء الخوض في متاهة التسوية حتى الآن!
كان للرجل، في سماته الشخصية، الكثير من المحاسن التي يفتقدها البعض من متصدري العمل الفلسطيني العام. فالرجل ودود بلا تصنّع، ومنفتح بلا نعرات، ولا يميل الى الصدام، وغير مدعٍ, ولعل ما يُضفي على هذه الإيجابيات جمالاً، أنه لا يحتد في الحديث، إلا عندما يتعلق الأمر بموضوعه السياسي. فقد نشأت علاقة ود واحترام، بينه وبين كاتب هذه السطور، بدأت بشفاعة لقطة واحدة ـ على الأقل من جانب الأخير ـ وتلك كانت تلخص طبيعة شخصية صائب عريقات. فقد كان يروي تاريخ عمله الوطني وصولاً الى مرتبته كوزير ـ أيامها ـ وكـ "كبير" مفاوضين، وكنا نمازحه ونطلب منه أن يدلنا على صغيرهم. وفي الحقيقة، أعطى انطباعاً حقيقياً من الجملة الأولى على تواضعه وعدم لجوئه الى اختراع حواديت عن عراقته في النضال. قال يومها: كنت شاباً كأي شاب يعيش في الأرض المحتلة، وعندما ابتعثتني جامعة النجاح الى جامعة "برادفورد" البريطانية، للحصول على درجة الدكتوراة في العلوم السياسية، تصادف أنني اخترت لأطروحتي موضوع "المفاوضات" ولما بدأت العملية السلمية، قرر هذا الرجل (وأشار الى الرئيس ياسر عرفات) منحي فرصة العمل معه في منظمة التحرير الفلسطينية ثم السلطة!
هكذا بكل بساطة، أعطى صائب عريقات انطباعاً مريحاً، بقطع النظر عما له أو عليه، وبغض النظر أيضاً عن حواديت الإمتداح أو النقد. فالمهم في ناظر كل من يتأمل السيرورات التاريخية لحركات التحرر، ويفهمها بشكل صحيح، أن القيادة الفلسطينية تُحسن صُنعاً عندما تسقطب الكادر المؤهل. وصائب عريقات بدأ ككادر تكنوقراط، يجيد لغة التفاوض ويمتلك ثقافتها، علماً بأن أعظم مفاوضي التاريخ، لن يحرز أية نتيجة مع طرف آخر، يتفاوض بأيديولوجيا عنصرية وهدفه الحصري من التفاوض هو كسب الوقت لصالحه!
عندما انتقل كادر التكنوقراط، صائب عريقات، الى مواقع المسؤولية السياسية، كان ذلك طبيعياً، ودون سعي منه، بحكم أن معظم أفراد الحاشية، من فاقدي المواهب والتأهيل العلمي، لا سيما في التفاوض. وأغلبهم بالطبع، بلا طلاقة في اللغة الإنجليزية، بالمستوى المطلوب للمفاوضات والإجتماعات، ولتمحيص النصوص. وعندما تكون القيادة ضيقة الحوصلة، مثل قيادة عباس التي لا ترى المجتمع الفلسطيني الزاخر بالكوادر؛ فلن يكون من بين الحاشية من يصلح لمواقع سياسية ذات احتكاكات دولية يومية، سوى صائب عريقات. فمثل هذه المهام، يصعب تحميلها بقرارات فاسدة الى السفارات، ولا حتى للتكليفات العقيمة على طريقة عزام الأحمد، الذي ربما يصارع في هذه اللحظات لكي يقتنص منصب أمين سر التنفيذية، بينما هو يخرج من دائرة الوعي، في حال استخدام العربية الفصحى مع رشة خفيفة من الثقافة.
نقطة أخرى حميدة، اضافها الشهيد الزعيم ياسر عرفات الى تجربته في أواخرها، وهي إتاحة الفرصة لكادر الأرض المحتلة، لكي يتقدم بشفاعة تعليمه المتقدم، ومعرفته للإحتلال وللمجتمع الإسرائيلي واعتياده على المواجهة. فقد كان ضرورياً أن يأخذ كادر الأرض المحتلة، الكثير من المهام، الى جانب مجموعة منتقاة من كادر الفصائل التاريخية الذي يمكن أن يصلح للعمل السياسي والإجتماعي. فعلى هذا الخط، الذي افتتحه الزعيم الشهيد ياسر عرفات، تقدم صائب ليصبح أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وهو المنصب الذي كان يشغله عباس قبل الرئاسة، وكان أداء الرجل، سيصبح فعالاً على المستويين الداخلي والخارجي، لو أن النظام السياسي الفلسطيني لم يتعرض للتدمير ولشطب مؤسساته الدستورية ولم تتعرض الساحة الفلسطينية نفسها للانقسام واستمرار الخصومة بين طرفين، يختلفان على كل شيء، لكنهما يتقفان على عدم استعادة الحياة الدستورية.
أمام قضاء الله وقدره، لا نملك الا الدعاء بالرحمة والرضوان للراحل صائب عريقات، والإعراب عن الأسف لخسارته في هذه الظروف الدقيقة. ويُسحب للرجل، فوق ماقبه، أنه لم يمتط موجة التطاول الإنتهازي، بعد شق عباس، الألوف من الكادر الوطني الفتحاوي، وافتعل مشكلة في داخل الحركة الرائدة، لقتل حيويتها ومؤسساتها وإخراس أجراسها واصواتها. فلا بد من استذكار ذلك، وليس لنا أن نُزكي على الله أحداً، إذ اقتضت مكارم الأخلاق، أن يحفظ المرء لأخيه حقه وفضله.