يبدو أن الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية، دونالد ترامب، كان يظن أو كان يفضل، أن تجري العملية الانتخابية على عجل، حتى يسهل عليه خطف النتيجة، بحيث يشارك في التصويت عدد قليل، أو أقل مما حدث فعلاً، لذا فقد كان يعد العدة منذ وقت لِلُّجوء للطرق الملتوية، في محاولة للاحتفاظ بمكانه في البيت الأبيض، ما دام الاحتفاظ بذلك الموقع، قد بدا له غير ممكن، أو على الأقل غير مؤكد، من خلال صناديق الاقتراع.
ومنذ بداية هذا العام فعلاً، بدأ سعيه للاحتفاظ بمنصبه الرئاسي، بإعلان خطته الخاصة بالشرق الأوسط، ثم بدفع عملية التطبيع بين إسرائيل وبعض دول الخليج، لكن بعد تحديد خصمه في الجانب الديمقراطي، بدأ ترامب وحملته اللجوء إلى الطرق المعرقلة للعملية الديمقراطية، في محاولة لمنع ملايين المواطنين الأميركيين من المشاركة في الاقتراع، عبر البريد، وكما هو معروف فإن الانتخابات التي تجري في ظل إجراءات التباعد الاجتماعي، من الطبيعي ألا تقتصر على التصويت المباشر، وهكذا ما أن بدأ التصويت المبكر، حتى بدأت الانتخابات تجري بكل الجدية، بل وأخذت في تسجيل الأرقام القياسية بالنظر إلى الانتخابات الرئاسية على مر تاريخ الولايات المتحدة.
في التصويت المبكر صوت نحو مائة مليون أميركي، ثم في يوم الاقتراع، الثلاثاء الماضي، صوت نحو ستين مليوناً آخرين، ثم ما أن بدأ فرز الأصوات في الولايات تباعاً، حتى بدأت تظهر مفارقات، كادت تحدث المفاجأة التي راهن عليها ترامب نفسه، وهي عكس التوقعات الناجمة عن استطلاعات الرأي، فكان من الطبيعي أن يتقدم الرئيس/المرشح بحكم أن الفرز يبدأ بالتصويت المباشر، فيما فرز التصويت عبر البريد، يحتاج وقتاً إضافياً، ففي بداية الأمر سجل ترامب تفوقاً حتى في التصويت الشعبي، لكن الأمور في اليوم التالي بدأت تنقلب في غير صالحه.
من المفارقات أن التفوق في معظم الولايات لأي من المرشحين كان بفوارق ضئيلة، باستثناء ألاسكا ذات الأصوات الثلاثة في المجمع الانتخابي، كذلك كثرت الولايات المتأرجحة، وفي يوم الأربعاء انتزع جو بادين ولايتي ويسكونسن وميتشغان، ليتقدم في المجمع الانتخابي، ثم ليصبح يوم الخميس على بعد 17 صوتاً من تأمين أغلبية أصوات المجمع، وبالتالي الفوز بمقعد الرئيس السادس والأربعين.
وما أن يحل صباح اليوم الجمعة حتى يكون الحسم معلقاً بولايتي نيفادا التي تكفي وحدها لتأمين المنصب لبايدن، كذلك أريزونا، فيما استمر الصراع على بنسلفانيا، المهم أنه بعد يومين من إغلاق صناديق الاقتراع، لم يعد بيد ترامب سوى قطع الطريق على استمرار عملية فرز الأصوات، عبر محاولة استصدار قرارات قضائية بوقف الفرز في بنسلفانيا وغيرها، كذلك بمحاولة فرض إعادة الفرز في ويسكونسن وميتشغان، رغم أنه قد فاز بها في الانتخابات السابقة أمام هيلاري كلينتون، بفارق أقل.
المهم أن الديمقراطيين ظهروا أكثر حرصاً على الجوهر الديمقراطي للعملية الانتخابية من خلال الحرص على احتساب كل صوت، وهو حق للمواطن أصلاً، فيما بدا ترامب وحملته على استعداد لممارسة أي شأن من شأنه أن يبقيه في البيت الأبيض، ولو كان الحال في أميركا يسمح بممارسة العنف والقهر والانقلاب العسكري لما تردد ترامب لحظة في ممارسة ذلك.
على الأغلب خلال هذا اليوم، سيعلن بطريقة أو بأخرى، من خلال الإعلام بالتحديد، ومنه شبكة فوكس نيوز المقربة من ترامب، عن فوز بايدن، لكن الإعلان الرسمي سيكون منوطاً بإعلان لجنة الانتخابات بعد نحو أسبوع، أي يوم الثاني عشر من الجاري، توطئة لاجتماع المجمع الانتخابي، للتصويت رسمياً للمرشح الفائز.
من المستبعد أن يسارع ترامب إلى التحلي بالروح الرياضية، وذلك عبر مبادرة الاتصال بخصمه وتهنئته بالفوز، بل سيقاتل بكل وسيلة من أجل تأجيل الإعلان، رغم أنه كان يطالب بسرعة صدوره، أي مساء الثلاثاء، بعد فرز صناديق الاقتراع المباشر، وإن استجابت له المحكمة العليا، فإن ذلك قد يدخل الولايات المتحدة في أزمة سياسية، قد تذكر بما حدث في إسرائيل العام الماضي.
المفارقة اللافتة من ضمن مفارقات عديدة، هي أن 70% من الإسرائيليين عبروا عن رغبتهم في فوز ترامب، فيما صوت 78% من اليهود الأميركيين لبايدن والديمقراطيين في الكونغرس مقابل 21% منهم فقط لترامب والجمهوريين.
بل إن 5% منهم فقط أشاروا إلى أن إسرائيل تهمهم من بين الموضوعات التي تتضمنها برامج المرشحين.
وهذا يعني أن كل هدايا ترامب لنتنياهو كانت بلا طائل، بما في ذلك ما تحقق من تطبيع مع ثلاث دول عربية قبل أسابيع.
يمكن القول إن هذه الانتخابات أثارت اهتماماً عالمياً كبيراً، وأحدثت جدلاً داخلياً منقطع النظير، فترامب سيكون رابع رئيس في التاريخ الأميركي يفشل في إعادة انتخابه لولاية ثانية، والأول منذ ثلاثة عقود، أي منذ فشل جورج بوش الأب العام 1992 في الفوز، وكان جمهورياً، فيما نجح ثلاثة رؤساء بعد ذلك في تولي منصب الرئيس لمدة ثماني سنوات لكل منهم، وكانوا تباعاً، بيل كلينتون، جورج بوش الابن وباراك أوباما.
صحيح أن البيت الأبيض هو الصيد الثمين في انتخابات 2020، لكن هذا لا يعني توقف طموح الديمقراطيين عند هذا الحد، بل هم ينافسون على أغلبية مجلس الشيوخ، مع الاحتفاظ بأغلبيتهم في مجلس النواب، وهم على وشك أن يحصدوا كل شيء مع نهاية هذا العام، وإن حدث هذا فيمكن أن ينطبق عليهم القول: مصائب قوم عند قوم فوائد، نعني أن جائحة «كورونا»، كما أن أداء رئيس متعجرف خلال أربع سنوات مضت، قد وفرا عليهم الكثير، وفتحا لهم الطريق واسعا، للعودة إلى البيت بحصاد وافر بعد ليلة انتخابية صاخبة.
*نقلًا عن "الأيام"