أزمة كأداء.. وضع الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون نفسه فيها. فشعبيته المتدنية كثيرا، جعلت مستقبله السياسي مهددًا من قبل زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان. لهذا عمد ماكرون الى سرقة خطاب لوبان وليس تبنيه. لا بل إنه زايد عليها وهرب إلى الخلف وليس إلى الأمام.
شأن ماكرون في هذا، شأن غالبية أسلافه ومنهم جاك شيراك الذين عندما تصفعهم نتائج استطلاعات الرأي، وتظهر تقدم اليمين المتطرف كما حال ماكرون حاليا، يعمدون كما عمد ماكرون اليوم الى استهداف الإسلام، بذريعة مواجهة أعمال إرهابية نفذها أو قد ينفذها إسلاميون متطرفون، كحادثة مجلة الكاريكاتير ورسومها الساخرة من النبي محمد. والتي أدت الى قيام طالب فرنسي شيشاني يدعى “عبدالله انزوروف” بذبح المدرس “صاموئيل باتي” الذي سبق له ولقن طلابه درسًا عن رسوم الكاريكاتير المسيئة للرسول.
الرسوم التي امتدحها رئيس فرنسا وتعهّد بالحفاظ عليها واستمرارها بوصفها تمثل قيم الجمهورية، سبقها كلام خطير لماكرون مفاده أن “الإسلام يعيش في أزمة في كل العالم”، حيث أيقظ تعاطي ماكرون مع الإسلام كـ “حائط صغير” عش الدبابير بوجه الرئيس الفرنسي الذي تعرض لعاصفة من ردود الفعل المتباينة في غضبها من اتجاه باريس لـ “فرنسة الإسلام”. وهو الاتجاه الذي روّج لمثيله باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري وأيضا سلف ماكرون فرنسوا هولاند عندما أخذوا يصدرون الفتاوى المغلفة بتصريحات إعلامية حول تصنيفات المسلمين، ونوعية الإسلام الذي يناسبهم.
وبالكلام عن ردود الفعل على تصريحات ماكرون، فقد برز اعتبار “الأزهر” بلسان مجلس البحوث العلمية فيه “أن مثل هذه التصريحات العنصرية من شأنها أن تؤجج مشاعر ملياري مسلم ممن يتبعون هذا الدين الحنيف”.
كما أكد “مجلس التعاون الخليجي” أن “تصريحات ماكرون غير المسؤولة، تزيد من نشر ثقافة الكراهية بين الشعوب، ولا تخدم العلاقات القوية بين الشعوب الإسلامية وشعب فرنسا الصديق”.
لكن تصريحات ماكرون العنصرية والاستعدائية للإسلام، بدت كهدية ثمينة ينتظرها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي لم ولا يوفر فرصة لمشاكلة ومساجلة نظيره الفرنسي. فكيف اذا كانت الهدية، ستمكن الأردوغان من التمظهر بصورة حامي حمى الإسلام، والمدافع عنه؟
إنه التمظهر الذي دفع أردوغان والإخوان للاستنجاد بعدوهما الراحل معمّر القذافي، ومحاولة تقمّص نبرة صوته واستعارة مقولته في مخاطبة الرئيس الفرنسي السابق “ساركوزي لديه خلل عقلي”، ليسقطها الأردوغان على الرئيس الفرنسي الحالي بالقول “ماكرون بحاجة لاختبار قدراته العقلية”.
تشكيك الرئيس التركي بقدرات ماكرون العقلية، دفع باريس الى استدعاء سفيرها في أنقرة للتشاور، بعد الإهانة غير الدبلوماسية التي ألحقها الأردوغان بالرئيس الفرنسي. إنه التشكيك الذي اهتزت لأجله كرامة رئيس فرنسا. فما بال ماكرون تجاه الإهانة البليغة التي يوجهها الى الإسلام والمسلمين عبر دفاعه عن رسوم الكاريكاتور المسيئة للنبي محمد؟.
بات شديد الوضوح أن الرئيس الفرنسي توخّى من تصريحاته الاستفزازية والعنصرية تأجيج عصبية مناصريه وشدّ عصبهم، لإشعال الرأي العام الفرنسي وصياغة إصطفافاته الانتخابية، عبر إشغاله بقضايا حسّاسة ومخيفة بهدف محاولة رفع مستوى شعبيته المتدنية. ربما لم يدر بخلد ماكرون أن تصريحاته ستشعل العالم الإسلامي غضبا، ما قد يدفع شرائح وازنة من المسلمين وليس فقط “الإسلاميين الراديكاليين” حول العالم الى اصطفافات مناقضة لما تبتغيه أجندة ماكرون وحساباته غير المحسوبة.
لكن ما أقدم عليه ماكرون تحت شعار حماية قيم فرنسا العلمانية، ليس مجرد نزوة إعلامية شعبوية لأسباب داخلية وانتخابية. فالمساس بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام، يصب في مصلحة جماعات الإسلام السياسي والجهادي، سيّما وأنهم يتمظهرون بمظهر أصحاب الوكالة الحصرية في الدفاع عن الإسلام، ومن هنا علينا النظر الى الأرباح السياسية ولو الشعبوية التي يحقّقها الأردوغان من مساجلته لماكرون.
نتحدث عن المساجلة الأردوغانية الماكرونية، وهي بخلاف المناغمة الأردوغانية الساركوزية، التي سبق وتخادمت مع الجهاديين والإسلاميين المتطرفين والمعتدلين تحت راية الناتو، بهدف الإجهاز على ليبيا القذّافية ذات 17 فبراير مضى. فـ “الثورة” التي اندلعت في ليبيا عشية 17 فبراير 2011، مستولدة من رحم 17 فبراير 2006 التي شهدت مظاهرات حول العالم تنديدًا واستنكارًا لرسوم الكاريكاتير الدنماركية المسيئة للنبي محمد.
فالذي حصل في ليبيا وقتذاك على وجه التحديد، أنه وبعيد صلاة الجمعة، انطلقت في العاصمة الليبية طرابلس، وبدعوة من الدولة الليبية ممثلة بالهيئة العامة للأوقاف وشؤون الزكاة، مظاهرة احتجاجية أمام “سفارة الدنمارك” احتجاجًا على الرسوم المسيئة للرسول.
وقد أجّج اعلان وزير الإصلاح الإيطالي “روبيرتو كالديرولي” نيته في ارتداء قميص يحمل الرسوم المسيئة للرسول مشاعر المتظاهرين في بنغازي، فيمّموا وجوههم شطر القنصلية الإيطالية، وصبّوا جام غضبهم المكنون بمفعول استعماري مكبوت عليها، فأحرقوا بعض أقسامها، وتصدّت لهم الشرطة ما أدى الى سقوط أكثر من 10 قتلى ونحو 55 جريحا هم بالمناسبة من الأسر والعائلات المعروفة بولائها للقذّافي.
ولتهدئة مشاعر الغضب استجابت الحكومة الإيطالية لضغوط العقيد القذافي التي أثمرت عن اعتذار الحكومة الايطالية وإقالة الوزير كالديرولي. وقد عمدت الدولة الليبية يومها، إلى محاسبة المسؤولين الأمنيين عن الحادثة، وإلى إقالة أمين الأمن العام أي (وزير الداخلية) آنذاك نصر المبروك، بالإضافة إلى دفع الديّات لأسر الشهداء وطيّ هذا الملف نهائياً بهدف إخراجه من دائرة الاستثمار السلبي الذي تحول الى مكنونات مكبوتة، تم تخصيبها بضع سنين وأعيد استثمارها في 17 فبراير 2011 عبر مظاهرات أهدافها المعلنة إحياء ذكرى شهداء حادثة القنصلية الايطالية، فيما أهدافها الحقيقية تتمثّل بالإجهاز على معمّر القذّافي ونظامه والدولة الليبية معا.
وإذ نسوق هذه الواقعة فلأنها تنتصب أمامنا، في كل مرة يحاول أحد ما التطاول على النبي محمد ورمزيته ومكانته المقدّسة لدى المسلمين حول العالم. وهي المكانة التي يحاول الرئيس الفرنسي اليوم النيل منها غير آبه بردود الفعل المحتملة وغير المحتملة، سيما وأن التعدي على نبي الإسلام يستفز ويستنفر بالضرورة مشاعر الغضب لدى كل المسلمين، بغض النظر عن تصنيفاتهم الإرهابية او الاعتدالية، وهو التعدي الذي يشكل الأرضية الخصبة التي يبتغيها دعاة التطرف والإرهاب توخيا لتحقيق شرعيتهم ومشروعيتهم من خلال ادعائهم حصرية الدفاع عن الإسلام ومقدساته.
بدون شك فإن مشاكلة الأردوغان مع ماكرون حول الإسلام، غير منفصلة عن المشاكسات الصاخبة التي تكتنف العلاقات الفرنسية التركية والمنطلقة من الاندفاعة التركية في ليبيا وشرقي المتوسط والمرجح أن تشمل بتداعياتها لبنان الذي كان محل منافسة تركية لفرنسا بعيد تفجير مرفأ بيروت الزلزالي. حيث ينبغي التوقف بكثير من الاهتمام والانتباه أمام محاولة بعض المتظاهرين نبش “المقابر الفرنسية” في طرابلس لولا منعهم من قبل الجيش اللبناني الذي انتشر في محيط المقابر. كما إن “ساحة النور” في طرابلس التي تظللت بالعلم اللبناني طوال عام 17 تشرين، ترفع اليوم الأعلام الإسلامية غضبا من مواقف ماكرون العنصرية والعدائية للإسلام. في حين أحرق محتجون في مدينة صيدا، العلم الفرنسي خلال اعتصام استنكاري لتصريحات ماكرون ورفضا للإساءة للنبي محمد. اعتصام صيدا مشابه لاعتصام آخر حول مقر إقامة السفير الفرنسي في إسرائيل صبّ جام غضبه على ماكرون.
هذه الاعتصامات وغيرها حول العالم، تزامنت مع كتابات حائطية مجهولة المصدر هدّدت بقطع رأس اوليفييه بيرزان رئيس بلدية الدائرة الثامنة بمدينة ليون الفرنسية، وأيضا مع كتابات حائطية أخرى هدّدت بقطع رأس جيريمي برو رئيس بلدية برو في ضاحية ليون الفرنسية كما وبقطع رؤوس الأساتذة والتلاميذ.
هذه الكتابات معطوفة على إجراءات أمنية أغلقت بموجبها الحكومة الفرنسية بعض المساجد والجمعيات، وتعتزم طرد عشرات الأشخاص، فضلا عن الخطاب الماكروني المتصاعد والذي يجد فيه الكثير من المسلمين استهدافا واضحا لهم ولدينهم دون غيره من الأديان، سيّما وأن خطة ماكرون المتلطية بمحاربة الإرهاب تمثل برأيهم عودة لسياسات فرنسا التقليدية الهادفة لقطع أي علاقة ثقافية للأقليات المسلمة في فرنسا ببلدانهم الأصلية.
ما تقدم يحتم على ماكرون الذي أطلق مبادرة لإنقاذ لبنان من الانهيار الاقتصادي أو الزوال، التعلم من هذا اللبنان بوصفه مختبرا واقعيا للتعايش الحقيقي بين الأديان والأفكار، بدل النزوع باتجاه تقسيم المجتمع الفرنسي على أساس دينوغرافي. كما يحتم على الدول العربية وخصوصا السعودية ومصر، ومن موقع الصداقة مع فرنسا، المسارعة لإطلاق مبادرة تحرّر المسلمين من إجراءات ماكرون التمييزية، وتواجه الإرهاب من جهة، وتسحب الملف من شعبوية أردوغان ومزايداته من جهة أخرى.
عن الغد