الكوفية:تستوقفني عبارة "طعنة في الظهر " التي يكررها السياسي الفلسطيني بعد بدء التطبيع العربي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. من يعرف تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة يدرك جيدا ان تيارا أساسيا في منظمة التحرير، لم يكن ابدا على قناعة بالمقاربات العربية الرسمية ولا بلاءات العرب في قمة الخرطوم، لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع إسرائيل، بل كنا نصف النظام العربي الرسمي وخاصة دول الطوق بانها مكمل وحام للمشروع الصهيوني وحاجز بيننا وبين اهدافنا في حرب التحرير الشعبية، وتعاملنا مع نظام الأسد بانه مشروع هيمنة على قرارنا. لن استعرض هنا محاولاتنا فتح قنوات مع قوى إسرائيلية، تارة تحت غطاء اننا نحاور من يؤيد حقنا او يؤيد السلام معنا.
في أوسلو وواشنطن كسرنا رسميا لاءات الخرطوم الثلاث، وحملنا النظام العربي مسؤولية انفرادنا بالقرار، بالقول انه النتاج الطبيعي لحصارنا المالي والسياسي مطلع التسعينات، ودبجنا المقالات والتنظير حول العبقرية الفلسطينية في استيعاب متغيرات العصر وانهيار جدار برلين وحصار العراق بعد احتلاله للكويت. خضنا مفاوضات واي ريفر وكمب ديفيد وطابا مع عدونا المحتل، الى ان تم اغتيال الزعيم ياسر عرفات أيذانا بنهاية مرحلة وفشل مقارباتها.
في البحث عن مسؤولية فشل اتفاقيات أوسلو ومشروع الدولة والاستقلال والتسوية التاريخية مع عدونا حيز وزمان اخر ، لكن المسؤولية لا تقع كلها على الانقلاب السياسي في إسرائيل نحو اليمين الديني والقومي المتطرف. ظل العربي الرسمي والشعبي صامتا او شامتا او داعما، وبعضه اتهمنا بالخيانة والتفريط حتى يومنا هذا.
اليوم وفي ظل انفراط عقد النظام الدولي والإقليمي ومؤسساته وزيادة حجم المخاطر على ما تبقى من الدولة الوطنية العربية، قرر بعض العرب ان مصالحهم الأمنية والاقتصادية والسياسية هي أولوية، ولم تعد القضية الفلسطينية في مقدمة الأولويات، وان هناك مكرهات واضطرارات تجبرهم على العبور من البوابة الإسرائيلية لضمان مصالحهم، تماما كما قلنا لبعض العرب، اننا ضد التدخل في شؤونهم الداخلية فلا تتدخلوا في شؤوننا، فأهل مكة أدرى بشعابها.
من كان ينتظر زحف الجيوش العربية لتحرير فلسطين فقد فوجئ وأحبط، ومن كان يأمل في ان يظل العربي حارسا لجدارنا ويرهن مصالحه ومصيره لتجريبنا السياسي فقد أخطأ ولا زال، من صمت على الحقيبة المالية للسفير القطري محمد العمادي التي كانت تمر عبر " الكرياه " وزارة الدفاع الإسرائيلي وعبر رام الله قبل وصولها الى حماس التي تختطف غزة، فعليه التريث في إطلاق الاحكام، والاستعداد للبحث عن مقاربات أخرى أكثر ابداعا ومبادرة لحماية الحق الفلسطيني في ظل متغيرات ومستجدات جذرية.
التطبيع العربي الرسمي مع دولة الاحتلال ليس نهاية العالم، ولا ينهي روايتنا المؤسسة على التاريخ والحق والعدل. لأننا أكثر من يعلم عمق مأزق المشروع الصهيوني، الذي لم يستطع حتى اليوم انهاء قضية الشعب الأصلي، حتى بعد حربين واحتلال كامل. القضية الفلسطينية عميقة في الوجدان والروح والثقافة العربية، هي عارنا الجمعي، وسؤال هويتنا الأساسي. رهاننا على شعوب المنطقة، وعلى جذرية المشروع الصهيوني العنصري المؤسس على ثقافة لم تتبدل ولا مؤشرات على تبدلها في المدى المنظور في النظرة الى العرب، سيذوب الثلج ويظهر المرج. وستتكشف حقيقة ان العلاقة الطبيعية مع إسرائيل التوسعية والعنصرية، ليست سوى لحظة عابرة في التاريخ، وان هذا "الاعتراف تحت التعذيب "كما حصل مع السودان لن يغير شيئا كثيرا. بل واذهب ابعد من ذلك بالقول: قلقي ان يكون هذا التطبيع بالإكراه هو استكمال لمشروع تفكيك المنطقة ووصفة نموذجية لإعادة انتاج كل قوى التطرف والإرهاب والظلامية، ولمرحلة ما بعد بعد داعش والقاعدة.