الكوفية:لكي تكون عادلاً يجب أن تستمع لطرفي القضية، ولا تحزن أو تتعاطف مع من فُقئت عينُه، فربما الآخر يكون قد أصبح مفقوءَ العينين، وفي نفس الوقت يجب أن تمسك خيوط القضية بيديك لكي تقول إن هذه الأم لا تستحق الأمومة في نهاية الاستماع والتحليل، وبعد الإمساك بكل الخيوط، وإلا فعليك ان تبتلع لسانك وتسكت.
لا شيء ولا ظروف ولا مآسي تبرر ان تتخلص الأم من أولادها بأن تقتلهم أو تحرقهم أو تدس لهم السم، أو ترميهم في مجرى النهر، لا شيء يبرر أن يدفع الأطفال حياتهم ثمناً لجريرة مجتمع متجنٍ وظالم يتمثل في قوانين ليست عادلة، وأب ظالم وأم تخاف على أولادها بقلة حيلة.
الأم التي ألقت طفليها في النهر لا تستحق أن تكون أماً، هذه هي محاكمة المجتمع، ولنا ان نتخيل الأم التي تقطعت بها السبل، كيف أصبحت خائفة على طفليها، وكيف أصبحت لا تطيق فراقهم ولا تطيق ان تتخيل وجودهم في حضانة الأب، أو لا تتخيل ان يبقوا بقية حياتهم في ظلم وقهر وذل عند أب انتزعهم من حضانة أمهم، أو عند زوجة أب لن تستطيع ان تعوضهم لو جزءاً بسيطاً من حب وحنان أمهم.
قالوا قديماً إن القطة تقفز بأطفالها سبعة حيطان لكي تحميهم، وربما صادفنا سلوك قطة قد وضعت لتوها، فهي تنقل القطيطات الصغيرة المغمضة الأعين من مكان لمكان رغم وهنها، ولا يمكن أن تستقر على مكان بعينه خوفاً عليهم، وقد قيل إن كل قطة تلتهم احد أطفالها بعد الولادة وهناك من عزا ذلك لشدة خوفها عليهم، وهناك من فسر ذلك بقلة الغذاء المتوفر للقطة المتعبة أو أنها تكون بحاجة للبروتين فتحصل عليه من قُطيطة وليدة ولديها قُطيطات أخريات.
ولكن المرجح والذي يصدقه العقل وما جُبلنا عليه من حب لأبنائنا ان القطة تلتهم أحد أولادها خوفاً عليهم وقد تأكل أكثر من واحد، ولأننا نحب أولادنا فلذات أكبادنا فنحن نشعر في لحظة من لحظات أمومتنا المتقدة أننا نريد أن نفتح قلوبنا ونضعهم بداخلها، أو نشرع صدورنا ونخفيهم فيها ثم نغلق الضلوع عليهم، وربما كانت كل هذه التوصيفات عبارة عن تعبيرات لتوصيل فكرة معينة، وهي ان الأم لديها خوف فطري على أولادها، ويشاركها الأب الحنون الطيب في ذلك أحياناً.
الأم حين تصبح قليلة الحيلة تتخيل ان كل العالم ضدها، وترى القانون لا ينصفها والدنيا تضيق بها، فلا تفسح لها بيتاً صغيراً ولا لقمة حلال مع فلذات كبدها، فتقرر ان تريحهم من عذاب بُعدهم عنها.
قلة الحيلة قد تودي بنا لأفكار خاطئة وسوداوية، وقلة الحيلة قد ترمي بنا لأفكار جنونية، ولكن الأم قليلة حيلة وفقدت إيمانها بكل العالم حولها، وربما بقيت لديها طريقة وحيدة للخلاص فقررت ان ترمي طفليها في النهر.
لا يمكن أن نقول إن الأم كان لديها خيارات أخرى، ولا يمكن ان نقول إن الأم ينتظرها رجل آخر، ولكنها بائسة وتعرف جيداً كيف سيحيا الأطفال مع أب لم يكن زوجاً محباً وأميناً، فقررت أن تختار لهم النهاية المأساوية.
الأمهات المجبولات على الحب والعطاء والحنان بحاجة لدعم من حولهن، لسن يملكن عصا سحرية لتوفير سبل الحياة الصعبة والقاسية، وأطفال هذا الزمن لديهم متطلبات أكثر من الأطفال قبل نصف قرن أو ربع قرن من اليوم، فالحياة تسير بوتيرة سريعة والأطفال لم يعودوا بحاجة للقمة قد تتسولها، ولكن لهم احتياجات كثيرة ومتغيرة ومكلفة لا تطيقها امرأة يطل كل هذا البؤس من عينيها وشحوب وجهها.
هي قاتلة ولكنها قتلت ألف مرة، هي تستحق العقاب فعلاً، ولكن يجب أن تكون في قلوبنا رأفةٌ بها ولها وعليها، وفي النهاية هي خالية الوِفاض، لا تطلبوا من أم خالية الوفاض ان تكون أماً كاملة لتمنحوها شهادة الأمومة.