قراصنة التاريخ يواصلون ليلهم بنهارهم لتحقيق أوهام إنهاء الصراع الفلسطيني والعربي الصهيوني.
يعتقد هؤلاء، أن ضغوطهم الشديدة وإغراءاتهم لفصل الشعب الفلسطيني وقضيته عن بعدها العربي، سيفرض على القيادات الفلسطينية توسل العودة للتعاطي مع مشروع تصفية القضية الفلسطينية.
واهم ترامب حين أعلن من على منصة الاحتفال التطبيعي أن الفلسطينيين سيأتون إلى طاولة المفاوضات.
من الواضح أن الخمسين يوماً المتبقية على الانتخابات الأميركية، ستكون شديدة الخطورة، حيث ستكثف الإدارة الأميركية ضغوطها على المزيد من الأنظمة العربية كي تلحق بركب التطبيع.
إسرائيل مرتاحة، لا تفعل شيئاً فثمة من يقوم بالدور نيابة عن ترامب ونيابة عن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو اللذين يواجهان أزمات ذاتية تتصل بوجودهما على رأسي الهرمين الأميركي والإسرائيلي.
وعلى كل حال سواء بقي ترامب أم هزم لصالح منافسه الديمقراطي، فإنه من المحظور على الفلسطينيين أن يفكروا أو يراهنوا على إمكانية إعادة عجلة الأحداث إلى الخلف.
فما جرى حتى الآن يكفي لإقفال صفحة التعامل مع الولايات المتحدة كطرف يمكن أن يظهر بعض النزاهة والحيادية.
أميركا هي أميركا التي نعرفها ويعرفها العالم بأسره، كقوة استعمارية باغية، أما إسرائيل فإنها الدولة العنصرية، التي لا يمكن لكل مساحيق الدنيا أن تحسّن وجهها الاستعماري البشع.
عليهم وعلى الفلسطينيين أن يقرؤوا التاريخ جيداً، فلا قيام دولة إسرائيل العام 1948 أدى إلى تبديد الشعب الفلسطيني وإذابته في محيطه العربي، ولا هزيمة حزيران 1967 حققت لإسرائيل الاستقرار والأمن، فلقد كانت الثورة الفلسطينية، رداً طبيعياً وسريعاً على تلك الهزيمة.
تكرر الأمر العام 1982 حين اعتقدت إسرائيل بدعم أميركي أنها ستنهي الثورة ومنظمة التحرير الفلسطينية لكن العنقاء نهضت من جديد عبر انتفاضة الشعب الكبرى العام 1987، ثم انتفاضة الأقصى العام 2000.
صحيح أن الأداء الفلسطيني أصابه عوار خطير، عبر متابعة الالتزام لأكثر من عقدين ونصف العقد من الزمان، ومن خلال الانقسام الخطير الذي وقع العام 2007، لكن القراءة المنصفة ستقول، إن الشعب الفلسطيني بمؤسساته وقواه، تعرض لحرب شرسة، أميركية إسرائيلية، تعاون خلالها بعض العرب، وحتى بعض القوى الدولية التي عجزت عن الدفاع عن الأمم المتحدة وقراراتها.
باق الشعب الفلسطيني الذي وصفه الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي، باق بكل الخصائص، التي تحدث عنها، حين اعتبره شعبا استثنائيا. إذا جاز لنا أن نقرأ قادم الأيام، فإن الضغوط والانهيارات ستستمر وسيعاني الكل الفلسطيني من حصار أشد مما عرفناه حتى اليوم.
ثمة مراهنة أميركية إسرائيلية، وأدوار مرسومة لبعض الأنظمة العربية للضغط حتى تجويع الشعب الفلسطيني، والتسليم بقبول «سلام مقابل سلام وطعام».
هو في الحقيقة سلام لإسرائيل، واستسلام من قبل الفلسطيني والعربي، والأخطر أن يتحول إلى تحالفات إقليمية دولية لا يتوقف دورها على الضغط والحصار، لبعض الوقت ربما يشكو الفلسطيني من العزلة السياسية، وانغلاق الكثير من الأبواب والنوافذ، لكنه بالتأكيد سيكون أكثر صلابة، وأشد قوة في مواجهة ما يتعرض له، بشرط أن يستفيد من الوقت المتاح للملمة صفوفه وإعادة بناء قوته وتجميع أوراقه.
والسؤال الكبير: ماذا ستفعل إسرائيل ومن معها وخلفها لشعب يصل تعداده إلى أكثر من ثلاثة عشر مليوناً من البشر غير العاديين؟
خلال أيام الحجر الصحي، وكنت محجوراً في فندق على شاطئ بحر غزة، فرضت السلطات منعاً للحركة والتجوال لمحاصرة انتشار «كورونا»، وكانت قرارات وإجراءات حظر الحركة صارمة.
كنت صباحاً ومساءً، أنظر من النافذة، كي أتمتع، بمشهد عشرات الشباب والصبايا الذين يسبحون في البحر. تأتي الشرطة فتطلب منهم المغادرة، ثم لا يلبثون أن يعودوا.
أحدهم وكان شاباً، طلب منه الشرطي ارتداء الكمامة فقال له: لو كنت أملك شيكلاً لاشتريت به خبزاً لأولادي وليس لأشتري كمامة.
كيف لهؤلاء أن يستسلموا، وقد أوصلهم الحصار والحال إلى مستوى الاستهتار بكل شيء عدا الكرامة؟
مليونا فلسطيني أو أكثر قليلاً يعيشون في غزة، وهم جزء أصيل من الشعب الفلسطيني يملكون الخصائص ذاتها، ويصلحون لأن يكونوا مجرد نموذج لقوة وتماسك الشعب الفلسطيني وإيمانه بقضيته.
قبل سنوات كان البنك الدولي قد أصدر تقريراً يقول فيه إن قطاع غزة، لن يكون مكاناً صالحاً للحياة الآدمية ولكن ها هم الناس يقتربون من توديع العام 2020، وهم يزدادون قوة وإرادة على تحمل الصعاب والمخاطر.
لم يكن بوارد من كتب تقرير البنك الدولي حينذاك، وربما كان يدرك أن جائحة «كورونا»، ستجتاح العالم، وقد تتحالف مع الحصار الاحتلالي، لكن لا الحصار ولا «كورونا» سيؤدي إلى فناء أو اقتلاع هذا الشعب من أرضه. مسألة «كورونا» ليست مسألة إجراءات تفرضها وتقوم بها السلطات في رام الله وغزة، فلقد عجزت عن هزيمتها دول كثيرة وكبيرة، ولديها من الإمكانيات ما يفوق عشرات المرات الإمكانية الفلسطينية.
المسألة مسألة شعب، والشعب يستهزئ بالحصار و»كورونا» وبعض الناس لا يعترفون بـ «كورونا» ولا بقدرتها على القضاء على حياة الناس. الفلسطيني لديه مناعة طبيعية، لكن قياداته وسلطاته، لن تتآمر على كبار السن من الفلسطينيين كما تفعل الدول الاستعمارية التي تستهتر بهم، وترغب في التخلص منهم حتى تتخلص من مليارات الدولارات التي تصرفها عليهم.
إن علاج «كورونا» والحصار والعدوان، هو عبارة عن روشيتة بيد الفلسطينيين فإن نجحوا في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه خلال اجتماع الأمناء العامين، فإنهم سيكونون قد امتلكوا الترياق، الذي يحصّن مناعة الفلسطينيين ويجعلهم قادرين على مواجهة وهزيمة كل عائلة «كورونا» وكل الفيروسات العربية والأميركية والإسرائيلية.
بعد ذلك يبقى أن تطلق ما نتمنى أن يكون قيادة واحدة موحدة للشعب، أن تطلق طاقة كل الفلسطينيين داخل وخارج الوطن ليدرك الكل في هذا العالم، أن فلسطين هي عنوان الاستقرار والسلم، وبيدها مفاتيح الحرب والسلام.
لعلّ التاريخ لا يتوقف عند هذه اللحظة، فالصراع مفتوح من جديد، على كل الأرض والحقوق، والكرامة وهو أيضاً مفتوح على الأرض العربية الرخوة، فالشعوب العربية لم تقل كلمتها بعد.
الاحتلال سيظل البلاء الأعظم، فلقد ذهب ضحية سياساته الإرهابية مئات آلاف الشهداء، ومئات آلاف الأسرى، فأين منه «كورونا» وأخواتها.
إنها ليست دعوة للاستهتار بـ «كورونا»، فكل إنسان طبيب نفسه، ولكن فيروس الاحتلال هو الأخطر من كل الفيروسات.