عبد الإله بلقزيز
ما الدّرس الذي يمكن لمجتمعاتنا ودولنا العربيّة أن تستفيده من التّجربة المريرة لجائحة وباء كورونا؟ وما الذي ينبغي لها أن تقرأهُ، قراءةً صحيحة، من الطّريقة التي قاربَت بها دُولُ العالم تلك الجائحة، ومن مشهد العلاقة التي وجدت تلك الدّول نفسَها تُقيمها بين بعضها البعض أثناء ضغط الوباء عليها؟ وهل لها أن تعثر في تلك الطّريقة الفاشلة على مؤشّر دالّ على وجوب الانصراف إلى خيارات في البناء والعمل غير تلك التي درجَتْ عليها، فيما مضى، وهي مشدودة إلى «شَراكاتها» الدّوليّة؟
نسارع إلى الجواب بالقول إنّ الدّرسَ الأغنى، الذي يمكنها استفادتُه من تلك التّجربة المريرة، ومن سياسات الدّول حيالها وحيال بعضها، هو الاعتماد على الذّات بما هو الخيار الوحيد والاستراتيجيات الأنجع للبناء ولجَبْه التّحديّات. والحاملُ على هذا الاعتقاد أكثر من سبب.
أولى الأسباب تجربةُ الوباء وسلوكُ دُول العالم تجاهه وتجاه بعضها، وما عاناهُ مبدأ التّضامن والتّعاوُن في سياق ذلك السُّلوك الفاشل، ولكن الدّال - في الوقت عينِه - على نوع ثقافة التّعاون والاعتماد المتبادَل المسيطرة في وعي النّخب الحاكمة في العالم، وفي بلدان الغرب خاصّة! على الذين تَعَوّدوا التّعويل في برامج التّنمية والبناء على «صداقاتهم» وعلاقاتهم بالولايات المتّحدة الأمريكيّة ودول «الاتّحاد الأوروبيّ» أن لا ينسوا أنّ تلك القوى أقفلت حدودها أمام بعضها.
الولايات المتّحدة أوّل من سارع إلى إقفال حدوده على أوروبا، بل على كندا والمكسيك الشّريكيْن معها في نظامٍ إقليميّ للتّبادل الحرّ. وحذت دول «الاتّحاد الأوروبيّ» حذوها فأقفلت حدودها على بعضها ضاربةً الشّراكة الإقليميّة بعرض الحائط؟ وهكذا تُرِكت دولُها الصّغرى (إسبانيا، إيطاليا، بلجيكا، هولندا...) عُرضةً للوباء ينهش في أبدان مواطنيها ومقدّراتها الاقتصاديّة. كيف، إذن، لمن ضحّى بحلفائه وشركائه في الغرب أن يلتفت إلى «أصدقائه» في الجنوب؟ وكيف للأخيرين أن يستمرّوا في سياسة التّعويل عليه وعلى إسناده لهم ومساعدته إيّاهم؟
وثاني الأسباب أنّ خيار الاعتماد على الذّات مسْلَكٌ سياسيّ طبيعيّ إبّان الأزمات الكبرى. كم من دولةٍ لجأت إليه لأنّها تُرِكت وحدها لقدرها وانشغل عنها غيرُها بأزماتهم. وكم من دولةٍ فرضهُ عليها ما تعرّضت له من حصارٍ مديد، من القوى الكبرى، لأسباب سياسيّة. وليس ما نعيشه، اليوم، غيرَ حالةٍ من حالات تلك الأزمات الخانقة التي لا ينفع، في مواجهة ضوائقها، سوى الاعتماد على الذّات. بماذا قاومت إيطاليا وفرنسا، جائحة الوباء الأخيرة؛ هل بأموال و«مساعدات» «الاتّحاد الأوروبيّ» والولايات الأمريكيّة المتّحدة أم بإمكانيّاتها الذّاتيّة ومواردها الوطنيّة؟
وثالث الأسباب أنّ دولةً لم تَبْنِ تنميتها، على الحقيقة، إلاّ من طريق استراتيجيّة الاعتماد على الذّات، بما يعنيه ذلك من تعبئة مواردها الوطنيّة كافة: الطّبيعيّة والاقتصاديّة والماليّة والبشريّة، والاستثمار الرّشيد فيها قصد تعظيمها، وتغذيّة عمليّة التّنميّة والبناء بالبحث العلميّ، والإنفاق الوطنيّ عليه.
والمثال الأكبر لهذه الاستراتيجيّة، في الأربعين عاماً الأخيرة، هو الصّين الشّعبيّة؛ البلد الذي فرض عليه الحصارُ الغربيّ الطّويل والقاسي أن يعتمد على نفسه وموارده. وقد لا تَقْوى كلُّ دولةٍ في العالم على أن تحصُد من خيار الاعتماد على الذّات اقتصادًا كبيراً وقويّاً، واستقلالاً اقتصاديّاً وعلميّاً وتِقانيّاً، مثلما أمكن ذلك للصّين، ولكنّ سيِرها فيه - بقدمٍ ثابتة - سيُسفر، لا محالة، عن نهضةٍ في قطاعات بعينها يقع تركيزُ البحث العلميّ والتّنميّة عليها؛ وتلك، مثلاً، حال كوبا التي نجحت، في تجربة حصارها المديد وسياسات الاعتماد على الذّات، في أن تُنجب أفضل نظامٍ صحيّ في العالم يغطّي الحاجات الوطنيّة، ويتكرّس لتقديم الخدمة، في الوقتِ عينِه، للبلدان التي تحتاج إليها.
ليس الاعتماد على الذّات، في عمليّة البناء التّنمويّ، بديلاً من استراتيجيّة التّعاون والاعتماد المتبادَل، بل هو شرط لاستقامتها فعلاً. لا اعتماد متبادلاً، على الحقيقة، من غير تحرُّرٍ من ربقة التبعيّة. الاعتماد «المتبادل» بين متبوعٍ وتابع أزعومةٌ فاضحة؛ إذْ ما الذي يملك التّابع أن يقدّمه إلى مَن يفرض عليه التّبعيّة ويتحكّم بمصيره. الاعتماد المتبادَل لا يكون إلاّ بين أنداد متناظرين في القوّة، وفي غياب هؤلاء، هو اسمٌ مستعار لعلاقةٍ هي علاقة: سيطرة/تبعيّة. لذلك لا مناص من تحقيق استقلاليّةٍ - نسبيّة - من طريق الاعتماد على الذّات - يسوغ بها خيارُ الاعتماد المتبادل ويستقيم معناه المطابِق.
"صحيفة الخليج"