فى السنوات الثلاث الأخيرة، يلفت الانتباه تغير كبير فى العقلية الغربية ومراجعة للتاريخ الاستعمارى.
ولقد صدم جزء من الرأى العام الفرنسى عندما وصف ماكرون، أثناء حملته الانتخابية فى 2017، فظائع الاحتلال الفرنسى للجزائر بأنها «جرائم ضد الإنسانية». وها نحن نرى مظاهرات حاشدة فى العواصم الغربية تنادى بإزاحة تماثيل بعض الأشخاص التاريخيين، الذين كانوا يعتبرون حتى وقت قريب من الأبطال القوميين أو من رموز الأمة، بسبب دورهم فى استعباد الشعوب الأخرى، ومن هؤلاء كريستوفر كولومبس، والرئيس الأمريكى جاكسون (الذى تبنى سياسة إبادة الهنود الحمر)، وحتى رئيس الوزراء البريطانى العتيد تشرشل الذى تسبب فى مجاعة فى الهند عام 1943.
ونحن فى العالم العربى كان لنا نصيب وافر من جرائم الاستعمار. ويقدر شهداء الكفاح المسلح فى الجزائر بما يفوق المليون شهيد، وعشرات الآلاف فى ليبيا، وفلسطين، وغيرها من الدول العربية. وإلى جانب القتل الصريح فى ميدان الكفاح، بل واصطياد المواطنين إمعانا فى الذل وتأكيدا لجبروت سلطات الاحتلال، كما حدث أثناء ثورات القاهرة ضد الفرنسيين، وفى حقول دنشواى، وفى مظاهرات ثورة 1919، كانت آلة الاستعمار تقتل أيضا خارج ساحة النضال. فالاستعمار (وهى كلمة تعنى عكس فحواها اللغوية) تعنى ببساطة استغلال الشعوب الضعيفة وسرقة مواردها. وبالطبع تمتد هذه السرقة لقوت هذه الشعوب وفرصها فى الحياة. وعلى ذلك مات ما يربو على 120,000 مصرى أثناء حفر قناة السويس، ومات الألوف غيرهم من المصريين بسبب المرض والجوع بينما كان على الدولة أن تسدد فوائد الديون التى ورطنا فيها المستعمر. وفى الحرب العالمية الأولى استولت سلطات الاحتلال على مخزون الحبوب وماشية الحقول ودواب النقل ووجهتها فى خدمة الحرب التى لم يكن لنا فيها ناقة ولا جمل. وفى الحرب العالمية الثانية ساهم جنود الشعوب المحتلة فى الحرب على الساحة الأوروبية، وفى الهند مات مئات الآلاف بسبب المجاعة بينما بخل عليهم تشرشل بإرسال المعونة اللازمة، ولو من المستعمرات الأخرى، وعلق بعنصرية على أن أولويته الأولى هى تغذية أبناء الجزيرة البريطانية وليس إرسال الغذاء إلى البنغال، «حيث يتوالدون مثل الأرانب».
وبينما يتغير الجو الثقافى فى أوروبا وأمريكا ويبدى استعداده للاعتراف بذنوب الاحتلال (اعتذرت هولندا من ما اقترفته من مجازر فى إندونيسيا، وألمانيا عن احتلال نامبيا) لم نحرك نحن ساكنا لتوثيق مخالفات الاستعمار البغيض للشرق العربى. بل أن هناك من يصف دخول المستعمر إلى الشرق كحملات للتنوير وليس للنهب والاغتصاب. وهناك من يتمسح فى الغرب وينادى بعودة تمثال «فرديناند دليسبس» إلى قاعدته على مدخل قناة السويس فى بورسعيد.
وقد يسأل البعض، ما الغرض من استعادة هذا التاريخ البغيض، ولماذا نبحث عن الخلاف ونسعى إلى اعتذار الغرب ونحن قد أصبحنا جزءا من العالم المفتوح ونجتهد فى الاندماج فيه. بل إننا نرى مصلحتنا فى فتح الأبواب والنوافذ ونؤمن بالعولمة. هذا النهج البسيط فى الاندماج والتصالح لا يناقض التعرف على التاريخ الصحيح والرضا بحكمه. ولقد أظهرت المظاهرات فى الغرب أن العنصرية ضد الرجل الأسود مازالت تعشعش فى حضارة الغرب، وأن تجاهل تاريخ العبودية لن يخلق مجتمعا واحدا. والعولمة بالرغم من مباهجها تفترض أن العالم كله على مستوى واحد بينما تم تغيير قواعد اللعبة لصالح العالم المتقدم. ففى ظل قواعد حرية التجارة وحماية الملكية الفكرية يجب علينا أن ندفع المقابل الكامل لاستخدام تكنولوجيا الغرب ومعرفته الفنية. فهل عوضنا الغرب على ما سرقه من كنوز الشرق وموارده. وهل يدفع لنا اليوم حقوقنا فى الآثار والتحف التى يعرضها فى متاحفه، وهل رد لنا مقابل استخدام العقول التى نزحها عن طريق الهجرة المشروعة وغير المشروعة. فالنظام الطبى فى الغرب يعتمد لدرجة كبيرة على الأطباء والممرضين من دول العالم الثالث، والمدن الأوربية لن تجد من يزيح قمامتها ويسير مواصلاتها بدون عمال إفريقيا، ونظم التأمين الاجتماعى الأوربى سوف تفلس بدون مساهمات الشباب من سوريا والمشرق العربى. ولم تكن أنجلا ميركل تنظر بعين الرحمة فقط عندما قبلت مليون مهاجر من سوريا والشرق، بل كانت تنظر إلى المنافع الكثيرة لهذا الدم الجديد الذى يسرى فى شرايين مدنهم المهجورة ومصانع ألمانيا الشرقية المغلقة.
هناك معركة أخرى غير معركة المال والتجارة. تلك هى معركة الحضارة والثقافة. والهجوم هنا قائم فى الغرب ضد الثقافة العربية والإسلامية. وتم تصوير العربى على أساس أنه نصير الهمجية، والإسلام على أنه دين التعصب.
ولقد قبلنا ببعض حجج الغرب ومغالطاته، وفرطنا فى تبيان الجانب المتسامح والإنسانى فى حضارة العرب..
ولذلك نعتقد أن إعادة تقييم التاريخ الاستعمارى، واعتراف الغرب بتجاوزاته فى الدول المحتلة، هو بداية لخلق نظام عالمى جديد مبنى على التكافؤ والتعاون الحق.
الشروق