- مدفعية الاحتلال تقصف محيط دوار أبو شريعة في حي الصبرة جنوب مدينة غزة
قبل أحد عشر أسبوعاً كان العالم يحتفل بمطلع العام الجديد، الذي رأى فيه عاماً مميزاً من حيث أنه يحمل رقماً ساحراً "2020"، ولم يخطر ببال أحد، بأنه سيحمل بين طياته حدثاً يزلزل الدنيا، ويملأها خوفاً وهلعاً، كما هو الحال الذي هي عليه الآن، وفي الحقيقة لم يكن أحد يتصور أن ينشغل الناس، كل الناس في أجزاء المعمورة، بحدث وحيد لدرجة أن يصبح مادة التداول الإعلامي بكل أدواته ووسائله الفضائية والإلكترونية والسوشيال ميديا، إلى هذا الحد الذي ينشغل الناس فيه ليل نهار بأخبار انتشار فيروس كورونا، ومجموع ضحاياه، في أربعة أنحاء الأرض.
في الحقيقة تواجه البشرية كل فترة أوبئة من مثل هذا النوع الخطِر، وفي القرن الماضي وبالتحديد قبل مئة عام بالضبط، واجهت البشرية الإنفلونزا الأسبانية التي جاءت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ما بين عامي 1918_1920، وحصدت أكثر من خمسين مليون قتيل، ومن ثم واجهت الجدري الذي حصد أضعاف ذلك الرقم، بحيث يمكن اعتبار أن حصيلة هذين المرضين من الضحايا كانت أكثر مما فعلت الحربان العالميتان معاً، ليس معنى ذلك بأن "كورونا" متوقع له أن يوقع ملايين الضحايا، لكن سبب الاهتمام العالمي يعود إلى "ثورة الاتصالات" بين البشر، والى زيادة الوعي بالحياة، ولأنه رب ضارة نافعة، فإن الهلع الذي أصاب الناس بسبب ظهور مرض ليس له لقاح بعد، دفع الدول إلى اتخاذ إجراءات مشددة بالعزل، أي إقامة مصدات انتشاره، فيما يكون المصابون في الحجر الصحي بين احتمالي الشفاء، وهي النسبة الأعلى، والموت.
نجحت الصين بتطورها ونظامها الدقيق والصارم في محاصرة المرض، لدرجة أنه تلاشى، قبل أن تعلن عن التوصل إلى العلاج، كذلك فإن لجوء الكثير من الدول إلى فرض حظر التجول، وعدم السماح بالتجمع في الأسواق والأماكن العامة، إلا في أضيق الحدود، وتعطيل المدارس والأعمال الحكومية، كل تلك الإجراءات أثبتت نجاعتها، كما حدث في الأردن وفلسطين، وحيث ما زالت الأخبار تتابع ما يحدث من إصابات جديدة، كذلك من ضحايا جدد في غير مكان ودولة للمرض، فإن لا أحد يمكنه الوقوف بدقة على الأرقام، خاصة وأن مندوبي منظمة الصحة العالمية يشيرون إلى أن أقل قليلاً من نصف المصابين بالفيروس لا تظهر عليهم أعراض المرض، وبالتالي لا يتم فحصهم، وأن معظم من تظهر عليهم أعراض المرض تظهر كما لو كانت أعراض نزلة برد خفيفة، أي لا يتم إدراجها كحالات إصابة بـ "الكورونا".
المهم في الأمر، أن القلق العام لن يتلاشى، إلا مع حصر المرض في كل دول العالم، وتراجع عدد المصابين به، وخاصة تراجع عدد حالات الوفاة، والأهم التوصل للقاح يمكنه أن يقضي عليه، وأن يعالج المصابين به، بما يؤدي إلى شفائهم منه، لكن ورغم أن هناك أخباراً متواترة تقول بأنه تم التوصل هنا أو هناك للمصل أو اللقاح، إلا أنه بالمقابل هناك تصريحات تقول إن التوصل للعلاج يحتاج وقتاً، قد يكون بين تسعة أشهر وعام ونصف، لذا فإن أغلب الظن بأن البشر سيظلون مهتمين بـ "كورونا" معظم هذا العام، وأياً تكن النتيجة، فإن المرض سيذهب، بغض النظر عن مجمل الضحايا البشرية التي سيكون قد ذهب بها، لكن ما سيبقى بعد ذلك، هو الأهم برأينا.
أولاً _ سيخلف "كورونا" وراءه خسائر اقتصادية هائلة، من جراء ما صرفته الدول من أموال لمواجهته ومحاصرة انتشاره، كذلك ما نجم عن ظهوره من تعطيل للحياة العامة، وبذلك فإنه متوقع أن تكون في مرحلة ما بعد "كورونا"، قد انهارت اقتصاديات ضعيفة أو هشة، كذلك أُثقلت اقتصاديات أخرى، وتباطأ نمو اقتصاديات عديدة، في عالم كلنا نعرف مدى التنافس والصراع العنيف بين أقوى اقتصاديات الكون فيه.
ثانياً_ لا بد أن يتعلم العالم درساً مفاده، أنه أصبح مجتمعاً بشرياً واحداً، لا يجوز أن لا تبدي الدول والشعوب الاهتمام الكافي بما يحدث بعيداً عنها، فحين ظهر الوباء في الصين أولاً، لم تهتم الكثير من الدول وتناقل الإعلام العالمي أخبار ما يحدث في البر الصيني، كما لو كان شأناً يحدث في كوكب آخر، أو أنه جزء من حرب بيولوجية بين عدوين، لكن حين انتشر بسرعة لدرجة أن غطى نحو 90% من دول العالم، اختلف الاهتمام، وبدت البشرية كما لو كانت موحدة في مواجهة عدو خارجي!
ثالثاً_ لا بد من إعادة أولويات الاهتمام الدولي، خاصة لشؤون المناخ والصحة العالمية، بعد أن بالغ عالم النظام العالمي أحادي القطب في الإعلاء من شأن "الترفيه" لدرجة صرف مليارات الدولارات على ملاعب كرة القدم وعلى اللاعبين الدوليين، مقابل عدم الاهتمام بما يهدد البشرية فيما يخص التغير المناخي، وفي الاهتمام بالمختبرات العلمية وما إلى ذلك.
رابعاً_ نتوقع أن يحدث تغيير ما على النظام العالمي لجهة أن يدرك أهمية أن يتم نزع التفرد من قيادته العالمية، وربما كانت دعوة تونس لانعقاد مجلس الأمن للبحث في تداعيات "كورونا" ما يشير إلى هذا، فالنظام العالمي أصبح مطالباً أن يكون أكثر عدالة وتوازناً واهتماماً بالأطراف والمحيط والفقراء عموماً، وأن ميزانية الأمم المتحدة بحاجة إلى بنود تغطي احتياجات البيئة ومواجهة التصحر والتغير المناخي، والاهتمام بكل ما يحدث من كوارث بيئية، وليس كما حدث إزاء الحرائق التي اندلعت في غابات أستراليا قبل وقت قصير.
خامساً_ يبقى مع ذلك الأهم وهو، أن التنافس الاقتصادي سيشتعل مجدداً، خاصة بين الولايات المتحدة والصين، التي يبدو أنها خرجت معافاة وبأقل الخسائر المتوقعة من محنة "كورونا"، وهي الآن تعيد لملمة أوضاعها للانطلاق من جديد، في رحلة النمو الاقتصادي العظيمة التي تسير عليها منذ سنين، فيما ربما تضطر الولايات المتحدة، خاصة بعد أن رصدت تريليونات الدولارات لشد أزر اقتصادها في مواجهة "كورونا" إلى التفكير من جديد، في فرض "الخاوة" على بعض الدول الغنية، العربية بالتحديد، كما فعلت قبل نحو عامين، لكن هذه المرة، لا ميزانيات تلك الدول ممتلئة بالأموال، وليس هناك من "بعبع" يمكن لترامب تخويفها به، لذا فعلى الأرجح القول بأن عالم ما بعد "كورونا" سيكون مختلفاً عما كان عليه قبلها، على الصعيد الاقتصادي على أقل تقدير.