حتى قبل ما سُمي ب«الربيع العربي» أطلق قادة حزب العدالة والتنمية في تركيا على أنفسهم صفة بأنهم «العثمانيون الجدد». كان منظرّهم أحمد داود أوغلو، وفارسهم رجب طيب أردوغان، وراعيهم عبد الله غول. الفرسان الثلاثة بالتكافل والتضامن كانوا رواد ودعاة العثمانية الجديدة، وعلى هذا الأساس انطلقوا في «فتوحاتهم» في المنطقة العربية، مستلهمين دربهم من السلاطين الفاتحين من محمد الثاني إلى سليم الأول، ولم ينتهوا عند عبدالحميد الثاني. كان لعبد الحميد «تتمة». أرادوا أن يكون له تتمة. وبعد عزل داود أوغلو من الحزب، واستبعاد غول عنه، اختزلت التتمة برجب طيب أردوغان.
امتطى أردوغان خطاب العثمانية الجديدة في أكثر أوجهها تطرفاً. فهو الذي أطلق خطاب «حدود الميثاق الملي»، وهو الذي اعتبر أن الموصل «كانت لنا» وهو الذي أعمل وزير داخليته سليمان صويلو عداده ليحتسب عدد اللاجئين السوريين في تركيا، الذين أتوا من مناطق في سوريا كانت ضمن حدود الميثاق الملّي.
في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1938 توفي مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك. وفي كل عام تستذكر تركيا الحديثة مؤسسها. وكلما كانت التحديات تعصف بالبلاد كان إحياء ذكرى أتاتورك يأخذ معاني جديدة ومكثفة، وكيف أنه حرر البلاد من القوات الأجنبية ووحّدها ومن ثم كيف بنى الدولة الحديثة المدنية العلمانية خارج الفرز الطائفي. ومع أن ذلك لم يطبق كما يجب، غير أنه كان في عوامل التقدم التي عرفتها تركيا بالشراكة لاحقاً مع المجموعة الأوروبية.
وكان التحدي الأكبر أمام الدولة المدنية العلمانية هو وصول حزب ديني؛ مثل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بمفرده عام 2002 الذي عمل على قدم وساق على تعزيز نزعة عثمانية تحمل تشدداً دينياً (على الطريقة التركية). واتكأ الحزب في ذلك على جماعات «الإخوان المسلمين» في العالم العربي، الذين كانوا ضحية حساباتهم الخاطئة من جهة، وضحية الاستخدام التركي لهم؛ فخسروا قاعدتهم في البلاد العربية، وخسروا بالتالي مشروعهم.
في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني هذه السنة انفجرت من جديد السجالات بين المتدينين والعلمانيين. وكما حاول حزب العدالة والتنمية قلب الوقائع التاريخية في المنطقة، كذلك حاول أردوغان في كلمته بمناسبة ذكرى وفاة أتاتورك أن يدعي أبوته لثورة أتاتورك وأنه المدافع عن «أتاتورك الحقيقي». وقال إنه لن يترك أتاتورك لمستغلي اسمه وثورته والمتاجرين بهما. وقال: «إن أحد أكبر أسباب معاداة البعض لنا؛ هو أننا كشفنا تجارتهم القذرة تلك».
وواصل قائلاً: «إن معاداة العثمانية وتحقيرها والحط من شأنها ناتج إما عن جهالة أو غفلة أو نوايا مغرضة، وهدفهم إخراج الأمة التركية من مدارها».
ودخل أردوغان دائرة التضليل؛ عندما اتهم بالكذب والافتراء من يقولون اليوم إن نسبة من يعرف القراءة والكتابة في أواخر الدولة العثمانية كانت متدنية جداً، مردفاً بأنه وفقاً لمؤرخين فإن النسبة قاربت 54 في المئة لدى من تجاوز عمره العشر سنوات.
لاقت كلمة أردوغان ردوداً كثيرة منها السياسي ومنها الفكري ومنها المعلوماتي.
على سبيل المثال يذكر الكاتب أمين تشولاشان: إن نسبة الذين يعرفون القراءة والكتابة في أواخر العهد العثماني كانت بين 3 و5 في المئة. أما الكاتب طه آقيول فيرد على أردوغان بالقول إن نسبة الذين يذهبون إلى المدرسة ممن بلغ العاشرة من عمره لم تتجاوز في عام 1894، ولا في أي محافظة العشرة في المئة. حتى في إسطنبول فقد كانت 9.82 في المئة. فكيف يمكن أن تكون نسبة الذين يعرفون القراءة والكتابة 54 في المئة؟
وفي عام 1860 كتب التنويري المعروف نامق كمال، إن نسبة من يعرف القراءة والكتابة لدى مسلمي الدولة العثمانية بلغت اثنين في المئة فقط فيما بلغت النسبة لدى «الآخرين»(أي للأرمن واليونانيين) 20 في المئة.
وفي أبحاثنا الخاصة أن نسبة الذين يعرفون القراءة والكتابة في تركيا بعد تأسيس الجمهورية بأربع سنوات (1927) قاربت ال11 في المئة فقط، وهي تراوحت بين 1.85 في محافظة «وان»(van) إلى 45.48 في المئة في مدينة إسطنبول.
وكانت نسبة الأمية المرتفعة جداً أحد أهم الأسباب التي دفعت بمصطفى كمال لتغيير الحرف من الأبجدية العربية والفارسية إلى الأبجدية اللاتينية وبالتالي محاولة نقل البلاد من التخلف الذي كانت فيه إلى التقدم بمحاكاة النماذج الأوروبية.
إن أخطر ما يمكن لزعيم سياسي أن يقامر به هو حرف وتحريف الوقائع التاريخية وإسقاطها على الحاضر؛ لخدمة مشاريع توسعية وإلغائية، وهو ما يحصل مع قادة تركيا اليوم في علاقتهم وتطلعهم إلى جوارهم الجغرافي من سوريا والعراق القريبتين إلى الجزيرة العربية وشمال إفريقيا الأقل قرباً.
الخليج الاماراتية