بمزيج من الحسابات الأمنية والهلوسات الشخصية تبدو العملية العسكرية التركية في الشمال السوري أقرب إلى مقامرة يتوقف المستقبل السياسي لأردوغان عليها.
لم تكن العملية العسكرية التركية في الشمال السوري مفاجئة، بل أخذت وقتها في الإعداد والتخطيط، وكانت فكرتها طوال الوقت محل سجال، وتفاوض وبحث في سبل تجنبها مع الإدارة الأمريكية التي أفسحت المجال فجأة أمام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ليتصرف منفرداً بقوة السلاح.
وإذا صح الادعاء الأمريكي بأنه لم يكن هناك ضوء أخضر للعملية العسكرية، أو تفاهمات مسبقة بشأن حدودها، ومحاذيرها، كما يؤكد الرئيس دونالد ترامب، فالمعنى أننا أمام فوضى هائلة غير مسبوقة في بنية صناعة القرار بالبيت الأبيض.
وإذا ما كان هناك مثل هذا الضوء الأخضر، فما حدث أقرب إلى الارتجال العشوائي من دون تحسب للتداعيات التي يمكن أن تلحق أضراراً فادحة يصعب ترميمها بصورة الولايات المتحدة في أكثر أقاليم العالم اشتعالاً بالنار.
وفي مثل هذا الارتجال تضاربت تصريحات ترامب، فمرة يتوعد بسحق تركيا اقتصادياً، ومرة أخرى يعرض وساطته بين الطرفين المتحاربين. مرة يعلن تفهمه للمخاوف التركية الأمنية التي تتهددها خلف الحدود السورية من جماعات كردية توصف ب«الإرهابية»، ومرة أخرى يتذكر أن هذه الجماعات حليفته الرئيسية في التمركز بالأراضي السورية أثناء الحرب على «داعش»، وأنه هو الذي أمدها بالسلاح، ودرّبها، وأعدّها ربما لنوع من تقسيم الأراضي السورية في المستقبل.
ما الذي يريده «ترامب» بالضبط؟
الإجابات تدور تقريباً حول الوضع الداخلي، وأزمات الرئيس المتفاقمة مع مجلس النواب الأمريكي، فيما أشباح عزله تلوح في جنباته، بأكثر من الأوضاع المعقدة في سوريا التي يرى أنها بلا نهاية، كمثل كل أزمات الشرق الأوسط، وأن الانخراط فيها مضيعة للوقت، وهو تصور لا يوافقه عليه «البنتاجون»، ولا المؤسسة التشريعية، ولا القطاع الأغلب من أنصاره في الحزب الجمهوري نفسه.
ما الذي يريده أردوغان بالضبط من مغامرته العسكرية؟
هناك ما هو معلن عن مخاوف أمنية تجد تعبيرها المباشر في طبيعة العلاقات التي تجمع القيادات الكردية المهيمنة على قوات «سوريا الديمقراطية»، مع حزب العمال الكردستاني الذي يقاتل الحكومة التركية، ويدعو لانفصال أكراد تركيا. وهناك ما هو غير المعلن، ويتعلق باهتزاز الوضع الداخلي للرئيس التركي، وسعيه عبر التصعيد العسكري إلى حشد المشاعر القومية خلفه، وترميم صفوف مناصريه، إثر الانشقاقات المدوية في حزبه «العدالة والتنمية»، بعد الخسارة الفادحة في انتخابات إسطنبول بما تحمله من دلالات رمزية، حيث هو نفسه صاحب تعبير «من يحكم إسطنبول يحكم تركيا». وقد كان لافتاً إطلاق اسم «نبع السلام» على عملية عسكرية أقرب إلى الغزوات الاستعمارية، كأنه رجل سلام تفيض حكمته على العالم، أو أن يصف جيشه العلماني بإرثه ونص الدستور بأنه «الجيش المحمدي»، في نوع من تجييش المشاعر الدينية، كأنه خليفة للمسلمين يباشر فتحاً، رغم أن الطرف الآخر «الكردي» مسلم سني، والموضوع كله لا علاقة له بالدين.
وبمزيج من الحسابات الأمنية، والهلوسات الشخصية، تبدو العملية العسكرية التركية في الشمال السوري أقرب إلى مقامرة يتوقف المستقبل السياسي لأردوغان عليها.
وكأي مقامرات سياسية فإن حصادها يتوقف على قدر ردات الفعل الإقليمية والدولية، ومستويات تأثيرها في حركة الأحداث، وموازينها.
ربما فوجئ أردوغان بشبه الإجماع الدولي على رفض العمل العسكري الذي باشره في الشمال السوري، وحجم التخوف من أية نزعة للتطهير العرقي ضد الأكراد، وخشية ما قد يلحق بالمدنيين من كوارث إنسانية وموجات نزوح.
ومن اللافت أن مثل هذه الاعتراضات تبناها أردوغان كثيراً لتسويغ رفضه لأية أعمال عسكرية يقوم بها الجيش السوري في مواجهاته مع «داعش»، أو «جبهة النصرة» التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع جهاز استخباراته.
وعلى خلفية تلك التخوفات تبدت مشاحنات عالية النبرة بين الاتحاد الأوروبي، وأردوغان، الذي أفلت عياره، مهدداً أوروبا إذا ما استمرت في وصف عمليته العسكرية بالغزو أو الاحتلال، بأن يطلق عليها ثلاثة ملايين لاجئ.
ورغم الضجر الأوروبي فإن موقفها لم يتعد طلب ضبط النفس، ووقف التصعيد ووضع حد للعملية العسكرية، وضمان سلامة المدنيين، ووحدة الأراضي السورية.
وعلى الأغلب، لن تتعدى العملية العسكرية التركية حدود ما كان متفقاً عليه مع الإدارة الأمريكية للمنطقة العازلة بعمق ثلاثين كيلومتراً لتخفيف الضغوط الدولية.
الخليج الاماراتية