الكوفية:يبدو أننا نعيش في حالة «إدقاع سياسي» يتجاوز خط الفقر هبوطاً، ومن أبرز معالمه الانفصام عما يحدث على أرض الواقع. من استفراد آلة الحرب الإسرائيلية بإعادة صياغة الحالة الفلسطينية برمّتها، على قاعدة الحل الفاشي الإسرائيلي، المدعوم من أكثرية الإسرائيليين ومن إدارة ترامب. ثمة علاقة بين أهداف الهجوم الوحشي المتمثل في تفكيك المجتمع الفلسطيني في القطاع والضفة، وفي تدمير مقومات البقاء على أرض الوطن توطئة لتهجيره وشطب قضيته الوطنية، وبين الأهداف التي يجب أن يتوحد عليها الشعب الفلسطيني. أول وأهم هذه الأهداف وقف نزيف الدم والتهجير الداخلي، ووقف جرائم الحرب التي لا تستثني المسعفين وعناصر الدفاع المدني، بمعنى وقف حرب الإبادة من أجل البقاء على أرض الوطن، وهذه هي مصلحة الكل الفلسطيني. دون شعب معافى يملك مقومات البقاء لا يمكن التفكير في أهداف أخرى. مهمة وقف حرب الإبادة كأداة لتحقيق الأهداف الإسرائيلية وتوفير سبل البقاء هي مسؤولية كل فلسطيني وكل من يحترم الحقوق المشروعة وحقوق الإنسان في فلسطين والعالم.
بون شاسع بين الدفاع عن بقاء مجتمع وبين الدفاع عن بقاء تنظيم في الحكم، وجود تناقض شديد بينهما يعبر عن اختلال فادح وخطير. على سبيل المثال إطلاق الصواريخ من دير البلح، وقبل ذلك إطلاقها من بيت حانون وبيت لاهيا والمناطق التي عاد إليها المهجرون، أدى إلى تهجير آلاف المواطنين من أماكن سكنهم وتشريدهم وتدمير أماكنهم المرممة، ووضعهم في شروط بالغة القسوة. ما فائدة هذه العملية إذاً؟ إثبات وجود المقاومة وفشل جيش الاحتلال في القضاء عليها، أو إفشال نظرية الردع الإسرائيلية، أو تحسين شروط التفاوض حول صفقة الأسرى الجديدة. لم يتحقق شيء من الفوائد المفترضة، خاصة في غياب خسائر إسرائيلية، فقد أصيب 9 إسرائيليين إصابات طفيفة، ودخل 20 في حالة هلع، مقابل عشرات الضحايا الفلسطينيين وآلاف المهجرين والمنكوبين، والأخطر من ذلك معاظمة خطر التهجير، وإضافة ذرائع جديدة لحكومة نتنياهو كي تواصل حرب الإبادة والتدمير. لم يحقق التنظيم شيئاً، ووضع نفسه في شروط أكثر سوءاً، وخسر المجتمع الشيء الكثير.
هنا سنجد من يدافع عن أخطاء «حماس» وتقديراتها الخاطئة بالقول: إن إسرائيل لا تحتاج إلى ذرائع، «وإنها غير قادرة على استئصال شأفة المقاومة كما ترغب». ما معنى بقاء مقاومة في الوقت الذي يتم فيه تدمير وتهجير مجتمع، أو بقاء «حماس» على أنقاض مجتمع؟ وفي المحصلة تخسر «حماس» ويخسر المجتمع أكثر. أكبر الاختلالات فداحة هو افتقاد «حماس» وفصائل المقاومة لأي حساسيات تجاه خسائر المجتمع، خاصة في صفوف الأبرياء، وعدم وضع حق المواطنين في الحياة وحمايتهم وتوفير حاجاتهم الضرورية وتقليل خسائرهم في سلّم الأولويات، والاكتفاء بتحميل إسرائيل مسؤولية ارتكاب جرائم حرب فقط لا غير.
كم يبدو استبعاد دور الذرائع متهافتاً، كالقول: إن دولة الاحتلال كانت ستهاجم قطاع غزة دون هجوم 7 أكتوبر، والقول: إنها ستدمر مخيمَي جنين ونور شمس وتشرد سكانهما دون وجود كتائب مسلحة. لا شك في أن لدى إسرائيل مشاريع تهجير، وخططاً، لتقويض أي حل سياسي ومشاريع كبح الكيانية الفلسطينية وحق تقرير المصير، لكن نقل تلك المشاريع إلى المستوى الإجرائي كان يحتاج إلى ذرائع تبرر العمل على تطبيقها، بصرف النظر عن افتقاد إسرائيل للحق في فعل ذلك، وعن تناقض فعلها مع القانون الدولي. وكم يبدو خاطئاً تجاهل دور العامل الذاتي في تسهيل أو تصعيب مهمة الأعداء، خاصة لدى المدافعين عن «حماس» من مواقع يسارية وعلمانية الذين أفرطوا سابقاً في التعاطي مع العاملَين الموضوعي والذاتي، وفي اتهام من يتجاهل ذلك بالوقوع في براثن النظرة الأحادية.
ويأتي تجاهل وجود تكتيكات خاطئة في المرتبة الثانية، أخطاء تخدم المشاريع المعادية كتجاهل ميزان القوى واختيار أسلوب حرب المواجهة الشاملة، والمبادرة إلى إعلان الحرب على جيش حديث ومتغطرس، تلك تكتيكات انتحارية تؤدي إلى نتائج وخيمة ولا تحتاج إلى تجريب مرات عديدة لنعرف أنها مخالفة لإستراتيجية التحرر أو حرب الشعب التي تستند إلى قواعد، أهمها وضع نقاط قوة المقاومة على نقاط ضعف العدو، وعدم السماح له بوضع عناصر قوته على عناصر ضعف المقاومة. ما يحدث في قطاع غزة وفي شمال الضفة هو الأخذ بنقيض تلك القواعد. وتستند المقاومة إلى قاعدة عدم استهداف المدنيين مع سبق الإصرار انسجاماً مع القانون الدولي، واعتماد منظومة قيم التحرر التي تصنع تفوقاً معنوياً وسياسياً وأخلاقياً، وعدم محاكاة الاستهداف الإسرائيلي للمدنيين الفلسطينيين الذي حول إسرائيل إلى دولة معزولة ومنبوذة.
تفادي الأخطاء والاختلالات، وممارسة النقد، ودفاع المجتمع عن نفسه في زمن حرب الإبادة المفتوحة والمتحررة من كل قيد. كل ذلك يندرج تحت بند واجب ومسؤولية كل فلسطيني فرد وكل مؤسسة وتنظيم ومجموعة تنتمي إلى فلسطين والى كل من يناصر التحرر ويناهض حرب الإبادة في العالم. لا يعقل أن يبقى الشعب الفلسطيني في حالة انتظار وتحت رحمة حسابات قيادة «حماس» التي عجزت عن فهم عدوها وحلفائها في محور المقاومة، ولا تعرف شعبها
بديلاً عن تقديم مبادرات من شأنها وقف حرب الإبادة كأولوية.
أصبح وجود أسرى إسرائيليين داخل قطاع غزة يساهم في إطالة الحرب ويوظف في إنضاج شروط التهجير. وتحول إطلاق صواريخ المقاومة إلى عبء بعد الرد الإسرائيلي بالمجازر وتشريد الآلاف وتدمير ما تبقى من أماكن أو أجزاء منها. لا يعوز المواطن والمراقب معرفة مآلات الحرب في ظل تغيير إسرائيل لقواعد الحرب وانحياز أميركي مطلق وبلا قيود، وتواطؤ دولي وعجز عربي. أمامنا خياران. الأول: خيار حركة «حماس» التي تفاوض على بقائها بشروط مجحفة تعبر عن ميزان قوى من طرف واحد، وسيكون الثمن باهظاً مع استمرار المجازر والتشريد والحيلولة دون إعادة الإعمار وصولاً إلى التهجير. حتى بقاء «حماس» يصبح مشكوكاً فيه. الخيار الثاني: مبادرة من الكل الفلسطيني تتضمن تبادلاً فورياً للأسرى، والانتقال من النضال المسلح إلى النضال السلمي بإشراف عربي ودولي، وتراجع «حماس» قولاً وفعلاً عن حكم قطاع غزة لصالح حكومة كفاءات فلسطينية مقبولة عربياً ودولياً. وانضواء حركة «حماس» في إطار الشرعية الفلسطينية، وتأمين حماية دولية وعربية لضمان الاتفاق وحماية المواطنين وإدخال المساعدات الإنسانية والطبية. هذه المبادرة تنزع ذريعة الاستمرار في حرب الإبادة داخل إسرائيل، وتكسر صمت الأمم المتحدة والصمت العربي. وأهم شيء تقدم فرصة حقيقية لإنقاذ الشعب الذي يتعرض للإبادة. هناك من يقول: إن الخيار الثاني سيمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها بسهولة ويسر، وستواصل العدوان، الرد على ذلك، أنه بوجود اتفاق فلسطيني عربي دولي، وبوجود خلافات إسرائيلية لا تستطيع إسرائيل الانقلاب الكامل على الاتفاق، ولنا في تجربة لبنان الذي يشهد انتهاكات إسرائيلية وهي دون مستوى حرب التدمير بكثير.