بينما يستمرّ الفلسطينيون في رفع شعار وهدف إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 4 حزيران 1967، ويعبّرون عن التزامهم بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، تتجه بوصلة الصراع، نحو المصير المحتوم، صراع البقاء.
هذا ما أعلنه مبكّراً رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو خلال الأيام الأولى من الحرب على قطاع غزّة، التي لم تبدأ فعلياً في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وإنّما سبقها في الضفة الغربية والقدس.
لم يتوقّف نتنياهو عن الإعلان أن دولة كيانه تخوض «حرب الاستقلال الثانية»، و»حرب النهضة والبقاء»، بل وإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، ابتداءً من أرض فلسطين التاريخية.
العالم كلّه تقريباً بات مقتنعاً بـ»حل الدولتين» باستثناء الولايات المتحدة الأميركية، لكن هذه القناعة لا تنطوي على الحدّ الأدنى من التأثير الإيجابي نحو فرض هذا الحل.
بديهي أن اقتناع الدول الغربية بهذا الحل، مردّه، لاعتبار هذا الحل إنقاذاً لدولة الاحتلال، التي لم ولن تتخلّى عنها، وأنه الحلّ الأفضل لضمان أمنها واستقرارها وبقائها، ولإنقاذها من جنون قيادتها المتطرّفة.
هذه القناعة تشمل، أيضاً، الدول العربية والإسلامية، التي تنضمّ إلى قائمة العجز الدولية، عن القيام بأيّ فعلٍ من أجل فرض هذا الحل.
لا يدرك العرب بعد، أو أنهم يدركون، ولكنهم عاجزون عن اتخاذ مواقف عملية لوقف الحرب الإبادية التي تستهدف مصالحهم واستقرارهم وثرواتهم، وأن ما يجري على الأرض الفلسطينية إنما هو مقدمة للزحف على المنطقة العربية برمّتها.
العودة إلى العدوان، والبطش، بمبادرة إسرائيلية ليس هدفها الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين، وليس فقط القضاء على المقاومة، سياسياً وعسكرياً، وإنّما تتجاوز ذلك، إلى إفراغ القطاع من أهله الفلسطينيين، ومواصلة ما سمّاها بتسلئيل سموتريتش «الثورة لتمكين المستوطنات والمستوطنين في الضفة عَبر إجراءات عملية متدرّجة، لا تعترض عليها أميركا، وربما يعني صمتها عمّا يجري هناك أنه ضوء أخضر أميركي.
لا تفيد في مواجهة ما يسعى إليه وما يعمل لتحقيقه، أي مبادرات، أو تنازلات، أو مرونة من قبل حركة «حماس»، فإن فعلت والأرجح ألا تتنازل عن شروطها، فإن نتنياهو سيجد الذريعة لمواصلة مخطّطات الإبادة الجماعية والتهجير وحرب التجويع والتعطيش.
الحكومة الفاشية بصدد تبنّي سياسة التهجير رسمياً ومن أجل ذلك أنشأت هيئة بهذا الخصوص، وتعمل على إنشاء إدارة مدنية موالية لها في القطاع.
مسألة إنشاء «إدارة مدنية» ليست سوى غطاء لتغليف إجراءات العملية، فلقد حاولت سابقاً إنشاء مثل هذا الجسم لكنها فشلت في استمالة أيّ من فلسطينيي القطاع لتحقيق ما تريد.
من يدقّق في السلوك الاحتلالي السياسي، والإداري والحربي، يمكن أن يستنتج بسهولة أن نتنياهو وضع ظهره على الجدار الأخير، وكأنه يقول «عليّ وعلى أعدائي».
لا يفكّر نتنياهو بالتراجع عن أهدافه حتى لو بقي وحده مع ائتلافه، وعملياً لم تعد دولة المشروع الصهيوني دولة يهودية فقط أو دولة احتلال، أو دولة عنصرية، أو متحدية للقوانين الدولية، ولا يهمها أن تتهم بأنها تمارس الإبادة الجماعية بأساليب مختلفة.
لم يعد نتنياهو وفريقه مستعداً لإبداء الحدّ الأدنى من الاهتمام بالتحقيقات الدولية، أو ما يصدر من اتهامات عن مؤسّسات العدالة الدولية، أو أيّ مؤسسة أممية بما في ذلك الأمم المتحدة.. فبعد أن اجتمع العالم على النظر إليها، من خلال كل تلك الاتهامات، لا يشعر نتنياهو بأن المزيد منها يمكن أن يغيّر الواقع، خصوصاً أن الردع الأميركي متوفّر.
إذا كان هذا ما يفعله ويسعى لتحقيقه نتنياهو وفريقه إزاء المشهد والواقع الصراعي، بل إنه يرى أن أهدافه تحظى بإجماعٍ سياسي ومجتمعي، خصوصاً فيما يتعلّق برفض إقامة الدولة الفلسطينية، فإنه يستغلّ حالة الحرب التدميرية والدموية والإجرامية للتخلص من «معارضيه» داخل النظام السياسي، بعد أن تمكّن أو اعتقد أنه تمكّن من إخصاء «المعارضة».
لقد تخلّص من قيادات عسكرية وأمنية، من خلال الإقالات أو الاستقالات ابتداءً من بيني غانتس وغادي آيزنكوت، إلى رئيس الأركان هرتسي هاليفي، وقائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال والناطق باسمه دانيال هاغاري، وضباط آخرين، إلى رونين بار رئيس «الشاباك».
على طريق إقالة المزيد، بدأت حكومة دولة الاحتلال إجراءات عزل مستشارتها القضائية القانونية غالي بهاراف ميارا، وستتبع ذلك إقالة رئيس جهاز «الموساد».
الأصوات من داخل الحكومة تتحدث عن ضرورة البدء بتنفيذ مخطط «الإصلاحات القضائية» الذي توقف نسبياً ومؤقتاً قبل الحرب الإبادية.
هكذا يكمل نتنياهو مخطط تحويل الدولة العبرية إلى دكتاتورية على غرار ما يتمتع به دونالد ترامب من صلاحيات شبه مطلقة في أميركا بعد فوزه في الانتخابات.
يدّعي نتنياهو أن دولة الاحتلال ستظلّ ديمقراطية، وأنها لن تنزلق إلى حرب أهلية، بينما ردود الفعل على العودة للعدوان، والاستهتار بحياة الرهائن، ثم إقالة بار، والإجراءات بحقّ ميارا، والوقائع في الشارع الإسرائيلي، تؤشّر على إمكانية الانزلاق إلى «عصيان مدني»، يسبق تصاعداً في مؤشّرات الانزلاق نحو حرب أهلية، لم تعد التظاهرات والاحتجاجات حصرية على أهالي الأسرى، وإنما تتسع لتشمل أبعاداً سياسية لها علاقة بالصراع الداخلي الدائر على هويّة الدولة ومستقبلها.
هي أيام قليلة في انتظار قرار «المحكمة العليا» بشأن الالتماسات الخاصة بإقالة رئيس «الشاباك» بار حتى يتضح إلى أين تتجه الأوضاع في ضوء إصرار الحكومة على إقالته، والمستشارة القضائية.
إن كان الأمر كذلك، فإن ثمة ما يستدعي من الفلسطينيين إعادة النظر فيما يترتّب عليهم أن يفعلوه، والخروج من الإطار الجاري الذي يحكم حساباتهم وسلوكهم.