- آليات جيش الاحتلال تتقدم في محيط المستشفى الإندونيسي شمال قطاع غزة
برحيل الروائي والمفكر اللبناني إلياس خوري خسرت فلسطين أحد أهم رموزها التحررية والأدبية والثقافية.
وتعاظم حزن فلسطين برحيل خوري في خضم حرب الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة. جمع خوري في سنة العدوان بين آلام جسده الناجمة عن المرض وآلام مئات آلاف الفلسطينيين فصار الألم عصياً على الاحتمال ليتوقف قلبه عن الخفقان ويترجل في هذا الوقت العصيب.
كثيرون في لبنان وسورية ومصر وكثيرون من طلابه في الجامعات الأميركية والأوروبية فقدوه كرمز من رموزهم الأكاديمية والفكرية، لكن الفقد الأكبر كان في فلسطين التي وقع في حبها وبادلته الحب.
كان التحول الأهم منذ اندلاع الثورة الفلسطينية، هو تحول الهوية الفلسطينية إلى هوية نضالية عربية وعالمية ومن كل الجنسيات.
هكذا تعامل الشاعر والروائي الفرنسي جان جنيه، والمخرج السينمائي الفرنسي جان لوك غودار وغيرهما ممن أعطوا أهمية خاصة للنضال الفلسطيني، واعتبر غودار أن التغيير في العالم يبدأ من الثورة الفلسطينية وقد جاء إلى قواعد الفدائيين وبدأ بإخراج فيلم عن تجربتهم.
منذ ذلك الوقت حذا إلياس خوري حذوهم وكان عنصراً حيوياً في تلك الظاهرة، فانضم للثورة وكان فدائياً في الأردن وفي لبنان، وعمل في مركز الأبحاث، وفي مجلة شؤون فلسطينية ومجلة الكرمل وصولاً إلى مجلة الدراسات الفلسطينية التي شغل رئيس تحريرها حتى اليوم الأخير من حياته.
ومن خلال عمله، نسج علاقة وطيدة مع النخب الفلسطينية ومع الفئات الشابة داخل وخارج فلسطين، عرف فلسطين بالبحث والدراسة والتواصل معايشاً التغريبة الفلسطينية في كل مستوياتها، وقد أسس عالماً معرفياً عن فلسطين انعكس على أعماله الأدبية الأهم: باب الشمس، أولاد الغيتو - اسمي آدم - ، أولاد الغيتو - نجمة البحر- ، وكتاب "النكبة المستمرة".
من قرأ أو سيقرأ تلك الأعمال سيندهش من إلمام خوري ومعرفته بتفاصيل المكان وبسيكولوجية الإنسان الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، وبسيكولوجية الآخر الإسرائيلي.
تركت روايات خوري بصمات قوية في مجالات مختلفة كإغناء العالم الروحي للقراء ورفع ذائقتهم الجمالية من خلال السرد الأدبي ومونولوجاته المثيرة المتحررة من القيود التقليدية، ومن خلال جماليات اللغة، والمخزون الثقافي الذي يملكه الروائي ويوظفه في تعزيز النص الأدبي، حيث يستمد البناء اللغوي والفني قوته من بلاغة وقوة وعظمة الأحداث.
يضاف إلى ذلك الجرأة في الكشف الأدبي عن المسكوت عنه وفي اختراق صمت الصامتين.
ومن غير الأدب يستطيع ذلك؟ غاص خوري في ذاكرات الآخرين واستخرج تفاصيل كثيرة مسكوتاً عنها.
أمسك بخيوط وبنى أعمالا هي مزيج من الأدب والنقد الأدبي ومن الحقيقة والخيال، واشتبك خلالها مع الواقع وسيكولوجية الخوف وخمول الذاكرة، فقلب المعادلة التي تقول إن التاريخ يكتبه المنتصرون، لمصلحة معادلة بوح الضحايا وكتابتهم لتاريخهم.
ذهب خوري إلى الإنسان العادي الذي لا يعرف قيمة عمله ولا دوره، فكشف عن بطولات مجهولة ومثيرة متوقفاً عند الضعف الإنساني وقوة الأشياء.
قدم مجنونة الكابري في رواية "باب الشمس"، المرأة التي كانت تجمع عظام الضحايا وتحفر لها قبوراً، والشيخ عزيز أيوب الذي بقي وحيداً يحرس شجرة السدر، وأم حسن الكويكات التي أذهلت المرأة الإسرائيلية في معرفتها بتفاصيل المكان. وخلود في رواية أولاد الغيتو التي رقصت بأمر القاتل.
لا يخلو أسلوب خوري الروائي من فلسفة، حين يقول في رواية باب الشمس: يعبر اليقين إلى عقلك بالشك، والحرية هي أن نكون قادرين على الخطأ، الآن أشعر بحريتي لأنني أخطئ كما أحب، وأتراجع متى أردت، وأنا سجين لا يملك سوى حكايات أؤلفها عن حريتي. طرح خوري فلسفة للصمت، مغايرة لفكرة "رجال في الشمس"، حين قال في رواية أولاد الغيتو إن السؤال الحقيقي ليس في صمت الفلسطيني بل هو في صمم العالم عن التفاعل مع كارثتهم، الأساس هو صمت العالم والفرع هو الصمت ولا يمكن فصل الصمتين عن بعضهما البعض، واستنتج بأن الصمم الخارجي أفضى إلى صمم داخلي.
أراد المحتل دفن قصة العثور على الرضيع آدم - بطل الرواية - تحت شجرة الزيتون على صدر أمه الميتة.
لقد صمت جيل النكبة ولم يتكلم خوفاً، وكان يجب على من تبقى في فلسطين أن يعيشوا لا مرئيين كي لا يطردوا من بلادهم أو يقتلوا، كم كان صمتهم مذهلاً! وكم كان بوحهم مذهلاً! بين صمت الذاكرة وانثيالها بون شاسع. فرض المنتصر الصمت على المهزوم مستخدماً لغة الضحية ونجح في حجب أنين الضحايا، إلى أن جاء الأدب ليمارس حق النقض على الصمت. ويشرح معنى مكانة الضحية الإسرائيلية الأبدية، بهيئة جلاد مقدس.
تقدم روايات إلياس خوري نموذجين للإسرائيليين اليهود: النموذج الذي ارتكب التطهير العرقي المدعم بمستوى ثقافي أرسى ثقافة التمييز والقهر الكولونيالية وعمل على تثبيت احتكاره للضحية وهو الاتجاه المركزي الإسرائيلي الذي يواصل الاستيطان ويتنكر للحقوق الفلسطينية المعرفة بوساطة الشرعية الدولية. هؤلاء كما جاء في الرواية خانوا الضحية اليهودية حين سحقوا الفلسطينيين بلا رحمة. والنموذج الثاني هو الإسرائيلي الذي يتبنى قيم الحرية والعدالة والمساواة، أو عندما يتماثل مع الفلسطيني في قيم إنسانية وحقوقية واحدة تُفتح الأبواب أمام حل الصراع.
لكن الإسرائيلي الذي يفعل ذلك يتعرض للنبذ والتضييق والعزل وربما الإقصاء للخارج.
قدم خوري في روايته داليا المرأة اليهودية التي أحبت آدم كفلسطيني وذاكرة لكن حبهما انفرط بقوة العامل الخارجي، وتوقف عند حوارات تتضمن نقاط التقاء، لكنها لا تصمد طويلاً في الممارسة العملية، وكان درويش قد لخص العلاقة بقصيدة "بين ريتا وعيوني بندقية".
وكم كان خوري جريئاً ومبدئياً وتحررياً في وصفه لمكانة المرأة والعلاقة بين الجنسين، وقد أطلق العنان لمشاعر أبطاله من الرجال والنساء، ففي كل الروايات تقاسم الطرفان الأدوار وأحياناً كثيرة رجحت الكفة لصالح المرأة، نهيل في "باب الشمس" لا تقل أهمية عن يونس، وبخاصة في حوارها مع مسؤول الأمن الإسرائيلي الذي حاول ابتزازها، حين قالت: نحن دفعنا كل الثمن، أوصلتمونا إلى القاع وبعد القاع لا يوجد شيء ستنحدرون معنا وسنأخذكم إلى قاعنا وستتذوقون طعم النار التي تحرقنا.
ومنال في رواية أولاد الغيتو كانت صانعة لآدم بطل الرواية. يقول خوري في باب الشمس: يفيض الحب في المرأة العاشقة ... أما الرجل فلا. ويموت الرجل حين تتوقف المرأة عن حبه، الرجل يحتاج إلى امرأة كي يموت أما المرأة فتستطيع إذا شاءت أن تموت وحدها. وخلود المرأة الشجاعة التي انفردت دون غيرها من الرجال والنساء بالذهاب مع رئيس لجنة الغيتو لسحب جثة الفتى مفيد. وخديجة المرأة التي هزت الأسلاك وحدها طلباً للماء...
روايات خوري تفيض بالأفكار والأسئلة والجماليات والحب والإنسانية، وكأنها نداء حاذق للدخول في لجة الفعل بحثاً عن الحرية.
بدأ خوري بالرهان على التغيير من خلال فلسطين، وانتهى بالرهان ذاته. بقي القول: حصل إلياس خوري على جائزة فلسطين للأدب عن رواية باب الشمس، لكنه حول المبلغ المستحق لدعم جامعة بيرزيت.