- طائرة إسرائيلية "أباتشي" تُطلق النار باتجاه المناطق الجنوبية من مدينة غزة
صحيح أن الأفعال تحسب بنتائجها، لذلك من المبكّر الإشارة لمن ربح من حرب الإبادة الإسرائيلية المندلعة منذ ما يقرب العام، أو حتى القول بأنها انتهت بالتعادل، ليتم اعتبارها بمثابة "فاصل ونعود"، أو مجرد جولة في سلسلة من الحروب المتصلة أو المتواصلة، منذ إقامة إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وضد محطيها العربي والإسلامي، وصحيح أيضا بأن هذه الحرب طالت أكثر بكثير مما توقع كل المتابعين، على الجانبين، ففي الجانب الفلسطيني، لم يكن أحد يتوقع أن تصمد المقاومة، في الاحتفاظ بالمحتجزين، وفي مواصلة إطلاق النار، كل هذا الوقت، في مواجهة قوة اعتادت على الحروب الخاطفة، حين كانت تلحق الهزيمة بالجيوش العربية في أيام معدودة، إن لم يكن في ساعات، كذلك لم يتوقع الكثيرون، أن ينجح بنيامين نتنياهو في مواصلة هذه الحرب، كل هذا الوقت، بالضد من الرفض الدولي، بما في ذلك المحاكم الدولية ومجلس الأمن والتظاهرات وحتى المواقف الرسمية، على خلفية ما يرتكبه من جرائم حرب، ومن تدمير وإبادة جماعية.
خاصة وأن حلفاء اسرائيل، الأميركيين على نحو خاص، وحتى في داخل اسرائيل، يُجمعون على أن نتنياهو الذي شن حرباً، بدأت بدافع الانتقام، تواصلت بدافع سياسي شخصي، وطالبوه بسبب الإخفاق في تحقيق أي هدف مهم عسكري أو سياسي، أولاً، وثانياً بدافع إنقاذ المحتجزين من الموت المحقق مع استمرار الحرب، بوقفها، لكنه صمد في مواجهة الحلفاء والداخل، وفرض تكتيكه السياسي والعسكري، وهو الرجل الذي يعتبر بدون خلفية أو تجربة عسكرية، كما كان حال رؤساء الحكومات السابقين، خاصة من حزب العمل، وكما توقعنا من قبل وقت طويل، بأن يحاول نتنياهو أن يُبقي على الحرب، الى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، وذلك كرهان على فوز الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي يمكنه معه أن يُبقي على حظوظه في البقاء في مكتب رئيس الوزراء طوال ولاية الكنيست، أي حتى العام 2026.
والحقيقة، أنه مع اندلاع الحرب، في الثامن من أكتوبر من العام الماضي، لم يكن واضحاً، أن ترامب له حظ في دخول البيت الأبيض مجدداً، ذلك أن منافسيه في الحزب الجمهوري، كانوا يطلون برؤوسهم، وكان هو ملاحقاً بالقضايا الجنائية العديدة أمام المحاكم، لكنه مع مرور الوقت، وبَدء فوزه بترشيح حزبه في الولايات الأولى التي جرى فيها الاقتراع الداخلي، حتى تبدّد منافسوه، بعد اقتراعات حزبية في عدة ولايات فقط، وحاولت نيكي هايلي المندوبة الأميركية السابق في الأمم المتحدة، أن تواصل منافسته، لكنها سرعان ما خرجت من السباق، وبذلك ظفر ترامب بترشيح الحزب الجمهوري مبكراً. أما الرئيس بايدن، فكان على عادة الرؤساء، حين يتقدمون للترشح لولاية ثانية، يكون من شبه المضمون بشكل تلقائي حصولهم على ورقة الترشح الحزبية، لذلك، بدا أن الانتخابات الرئاسية وقبل نحو عام، تقريباً، ستكون "كلاكيت" ثاني مرة عن انتخابات العام 2020 السابقة، أي بين بايدن وترامب.
وحتى مع هذا الاحتمال، بدت مراهنة نتنياهو على ترامب، غير مضمونة، لأن تجربة الانتخابات الرئاسية الأميركية تقول بأن نسبة فوز مَن كان رئيساً في البيت الأبيض هي أعلى من نسبة خسارته في الولاية الثانية، إلا إن كان ذلك يحدث مع ولاية حزب للمرة الثالثة، كما حدث مع جورج بوش الأب في مواجهة بيل كلينتون عام 1992، أو اذا كان الرئيس ضعيفاً بشكل واضح وواجه مرشحاً قوياً ومتحمساً من الحزب الآخر، كما حدث مع جيمي كارتر في مواجهة رونالد ريغان عام 1980، ولأن نتنياهو أيضاً دخل في علاقة غير ودية مع ترامب، بعد الانتخابات السابقة، ولهذا فما أن ظفر ترامب بترشح الحزب الجمهوري، حتى بدأ نتنياهو يبتلع كرامته ويرسل مقربيه لكسب ود المرشح الجمهوري.
لكن نتنياهو المحنّك السياسي، وصاحب التجربة الطويلة في الحكم، والأهم من كل ذلك السياسي الذي بات ظهره ملاصقاً للحائط، وهو يدرك تماماً، بأن وجوده الحالي في المنصب، هو الوجود الأخير، وحين يخرج منه لن يعود اليه أبدا، على الأقل بسبب تقدمه في العمر، لكن نتنياهو هذا يقدم أوراق اعتماده لترامب بشكل مزدوج، فهو بمواجهته بايدن، واعتماده على الفاشيين من اليمين المتطرف، وإجهاضه حلم بايدن في البقاء بالبيت الأبيض، من خلال التعارض بينهما خلال فترة الحرب، حول تكتيكاتها واستمرارها، ورفضه تقديم أي ورقة لبايدن على حساب مصلحته السياسية الشخصية، قدم خدمة لترامب، حيث ظهر تراجع بايدن في استطلاعات الرأي، بعد تنديد أوساط من الحزب الديمقراطي نفسه بوقوفه مع الفاشيين الإسرائيليين في حرب الإبادة، ثم توج ضعف بايدن في المناظرة مع ترامب.
حينها بدا أن مراهنة نتنياهو تسير في الاتجاه الصحيح، وكان الهجوم على رفح، في مطلع أيار الماضي، بمثابة المحطة الفاصلة، فقد فعلها نتنياهو رغم كل التحذيرات التي ظلت إدارة بايدن تطلقها منذ وقت طويل قبل ذلك، وبدا بعد المناظرة، خاصة مع انكفاء بايدن الذي لم يعد يتحدث ولا بكلمة انتقاد لنتنياهو منذ ما بعد المناظرة مع ترامب التي جرت في نهاية حزيران الماضي، أي قبل نحو شهرين، وصار بإمكان نتنياهو أن يعد الأيام فقط، حتى يتحقق ما يسعى إليه، على نار هادئة، رغم كل الصخب والضجيج، لكن الحزب الديمقراطي الذي استشعر الخطر على مستقبل الحزب وربما على مستقبل أميركا نفسها، أقدم على انقلاب غير متوقع، ليعيد خلط الأمور مجدداً، بما يعيد رهانات نتنياهو الى نقطة الصفر مجدداً.
نقصد بذلك بالطبع، سحب بايدن من السباق الانتخابي وإطلاق نائبته كامالا هاريس، التي انطلقت كما السهم في مواجهة ترامب، الذي بعد أن تبجح بعد المناظرة، وبدأ يطلق التصريحات باعتباره رئيساً قادماً بلا شك، عاد ليضطر ليس فقط أن يعيد فتح الباب أمام نتنياهو، بل لأن يقبّل أقدام اللوبي اليهودي الصهيوني المؤثر جداً في الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث قال في مؤتمر انتخابي بأن مساحة اسرائيل تبدو صغيرة جداً، وأنه لطالما تم التفكير في توسيعها، كذلك أشار أكثر من مرة بأن الحرب يجب أن تنتهي بسرعة، وهو بالطبع لا يشير ولا يقصد ولا يطالب نتنياهو بوقفها، بل بإبادة قطاع غزة في أيام، بدلاً من الحاجة لكل هذا الوقت.
ترامب مع التحدي الذي تظهره هاريس، بات عصبياً، وكان أسهل عليه بالطبع، أن يواجه بايدن، الذي كان أصلاً صورة باهتة عنه في عام 2020، لذا ترامب مضطر الآن لأن يظهر التوافق ليس مع نتنياهو، بل مع بن غفير وسموتريتش، اللذين تحفّظ بايدن على وجودهما في الحكومة الاسرائيلية، ولو جُن جنون أميركا، كما هو حال اسرائيل، وظهر هذا الجنون في صناديق الاقتراع التي ستجري بعد أكثر قليلاً من شهرين، وفاز ترامب، وذهبت اسرائيل الى توريث بن غفير أو سموتريتش أو حتى نفتالي بينيت، بعد نتنياهو، فحينها يمكن القول، بأن ترامب الذي اتخذ قرار الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل وبضمها الاحتلالي للجولان السوري، في ولايته السابقة، سيكون برنامجه أو خطته مع المتطرفين اللاهوتيين الإسرائيليين، هو إقامة إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل، وليس فقط ضم الضفة الفلسطينية وقطاع غزة المحتلّين لدولة إسرائيل، وربما يكون المدخل الى كل هذا هو إطلاق الحرب الإقليمية فعلاً، إن لم يكن في عهد بايدن، ففي عهد ترامب، ما دامت الحرب على غزة ستستمر إلى ذلك الوقت، لتجعل إسرائيل وأميركا من الإقليم ساحة حرب محروقة بحجة الاقتراب من الحدود الإيرانية، لتدمير ليس فقط مفاعلات إيران النووية، بل كل قدراتها العسكرية، وإيران بمساحتها الواسعة، وما يقال عن مدن تحت الأرض بنحو 500م، عبارة عن قواعد صواريخ بالستية وطائرات مسيّرة، وعلينا هنا أن نستذكر ما فعلته إسرائيل مع أميركا بدفعها للحرب مع العراق، حيث بدأت الحجة أولا بوجود أسلحة دمار شامل في العراق، (مع إيران وجود مفاعل نووي يهدف لإنتاج القنبلة النووية)، ولم يتوقف الأمر عند حدود إدخال فرق التفتيش الدولية لداخل العراق، لأنها بعد أن تيقنت من عدم وجود تلك الأسلحة، أقدمت أميركا بقوة دفع وتحريض إسرائيلية على احتلال العراق.