لطالَمَا استخدمَ الناطقون الحمساويون في هجومهِم على أمنِ السلطةِ في رام الله ، تعبيرَ جماعةِ «دايتون» ، بمعنى أنّ قواتِ الأمنِ الفلسطينيةَ ، التي انضوتْ في المشروعِ التدريبيِ لإعادةِ تأهيلِها ، كانَ تدريبُها بإشرافِ الجنرالِ الأميركيِ «كيث دايتون» الذي شغَلَ موقعَ المنسقِ الأميركيِ للشؤونِ الأمنيةِ الفلسطينيةِ ــ الإسرائيلية . وبالمناسبةِ ، بدأَ المشروعُ في عهدِ حكومةِ هنية الأُولى بعدَ انتخاباتِ يناير 2006 وهنيّة هو الذي وقَّعَ عليهِ بخطِّ يدِه.
لكنْ من يتابعُ طريقةَ أداءِ الأمنِ الحمساويِّ في غزة ، وينظرُ إليها بعينِ المُلمِّ بأنواعِ المدارسِ العسكريةِ ومناهجِ تدريباتِها ، يرى أنّ طريقةَ الأمنِ الحمساويِّ وهو يقمعُ المظاهراتِ ويدْهَمُ البيوتَ ، تنتسبُ إلى المدرسةِ الإسرائيليةِ حصْراً . نقولُ ذلك بغيرِ تحاملٍ أو افتراءٍ ، وبمقاصدِ النصحيةِ ، ونزيدُ عليه بالتأكيدِ أنّ الفارقَ الطفيفَ بين جيشِ الاحتلالِ وأمنِ حماس ، لا سيما في طريقةِ التصرفِ عندَ دهْمِ البيوتِ ، يُسجَّلُ لصالحِ جيشِ الاحتلالِ صاحبِ المدرسةِ الأصليّ .
فهو الأبرعُ في التدريبِ والتطبيقِ؛ لذا تراه يتحاشى في معظَمِ الحالاتِ ، سبَّ النساءِ في أعراضهِنَّ ، ويتعمَّدُ ، لمقاصدَ شتَّى ، ضبْطَ ألفاظِ جنودِه عندَ دهْمِ المنازلِ ، مع الإيحاءِ للجيرانِ بأنّ المقصودةَ بالدهْمِ أسرةٌ واحدةٌ دون سِوَاها ، وليس المجتمعَ ولا العائلةَ ولا سائرَ البيوتِ الأخرى . ذلك لأنّ شلومو اللئيمَ ، يتصرفُ عندئذٍ ، كمَنْ يريدُ العنبَ ولا يريدُ مقاتلةَ الناطورِ ، أما الأرعنُ الذي يحسَبُ كلَّ صيحةٍ عليه ، فهو يريدُ مقاتلةَ ناطورِ الكرْمِ قبلَ العنبِ ، ويريدُ زجْرَ الناسِ جميعاً ، ويملؤُهُ الجموحُ والاندفاعُ إلى استعراضِ غَلاظتِهِ ، ويتبدى في ذلك كمَنْ يتمثَّلُ الحركاتِ نفسَها التي يؤديها الجنديُّ الإسرائيليُّ ، وهذا أسوأُ من منهجيةِ دايتون ! يخطئُ هؤلاء الذين يدفعون الأولادَ المسلحينَ الملثمينَ ، باسمِ الأمنِ التنفيذيِّ ، للانقضاضِ على الناسِ؛ إنْ ظنُّوا أننا سنجاملهُم وسنصمتُ على عنفهِم الموتورِ أو سنخشى ثرثراتِ تخوينهِم أو صِيغَ كلامهِم الفارغِ الذي لم يُنتجْ إلا الخيبة . ذلك لأنّ كرامةَ الناسِ وحقَّها في التظاهرِ وفي التعبيرِ عن رأْيِها خطٌّ أحمر . ثم إننا في هذا المجتمعِ ، متساوون في المظلوميةِ ومضروبون بالكرابيجِ ، وبالتالي ليس هناك أقبحُ من مظلومٍ يرتدي بزةً عسكريةً ويغطي رأسَهُ بلثامٍ ، فيتمثلُ دوْرَ الغالبِ والقويِّ ذِي العنفوانِ ، ويقمعُ أخاهُ المظلومَ بكرابيجِ الرهطِ المؤمن . ومعلومٌ منذُ بداياتِ انقلابِ حماس ، أنّ أشدَّ هؤلاء غلاظةً على الناسِ ، هم أبناءُ الذين قمعتْهُم حركةُ النضالِ الفلسطينيِ أثناءَ الانتفاضاتِ ، أو تعقبّتْ آثارَهُم الضالةَ ، بل إنّ من بينِهم مَنْ ضبطتْهُم مصالحُ الأمنِ الحمساوية نفسُها ، وحاكمتْهُم ودانتْهُم بالخيانةِ ، لأنّ أذاهُم ارتدَّ عليها ! لا تزالُ هناك فرصةٌ سانحةٌ لحماس ، لكيْ تقفَ وقفةً موضوعيةً مع الذاتِ ، فتراجعَ تجربتَها ، وتضعَ يدَها على مكامنِ الخللِ والرعونةِ والكذبِ والفسادِ والبذخِ ومصادرِ إنتاجِ وبيْعِ الأوهامِ والسياقاتِ الخطابيةِ المكابِرةِ ، وغرائزِ اعتصارِ المجتمع .
ولا بأسَ إنْ عادَ الحمساويون القادةُ ، إلى رأْيِ رسولِ الله في المكوسِ والضرائب . فقد كان عليه السلامُ يكرَهُ أهلَ المكسِ مثلما يكرهُ الكافر . فعندما رُجمتْ المرأةُ الغامديةُ التي اعترفتْ بالزنا ، لم يرضَ النبيُّ الكريمُ أنْ يتشفَّى بها واحدٌ من أصحابهِ ويسخَرَ منها وهي تموتُ ، فانتقَى ألفاظَهُ وهو يزجرُ الساخرَ : «لقد تابتْ توبةً ، لو تابَها صاحبُ مَكْسٍ ، لغفَرَ اللهُ له» .
ومَنْ هو صاحبُ المكس؟ إنه مَنْ يقرِّرُ الضريبةَ وينتزعُها من قُوتِ الناسِ ويُسهِمُ في إشقاءِ حياتهِم ! الحاقدون على حماس ، يريدونها أنْ تظلَّ متورطةً فيما هي فيه ، وبالطبعِ تسعدُهُم الهجماتُ الرعناءُ التي يتمثَّلُ فيها الحزانَى أدوارَ الجلادينَ . فمَنْ همُ الذين يجلدُهُم هؤلاء؟ إن مثلَ هذا الشططِ الآثِمِ ، يبرِّئُ العدوَّ ويجعلُه في مرتبةٍ أخلاقيةٍ أفضلَ ، بينما هو الأكثرُ وضاعةً أخلاقيةً على كوكبِ الأرض . على الأقلِّ سيقولُ المحتلون إنهم لا يهجمون على شعبِهِم ، ولا يعتقلون معارضاً مثلَ شلومو ساند ــ مثلاً ــ الذي يؤلفُ الكتبَ ويقولُ فيها إن إسرائيل دولةٌ ملفَّقةٌ وشعبَها ملفَّق . ولا تطردُ سلطاتُهُم بذريعةِ نشْرِ الفتنةِ ، جدعون ليفي من جريدةِ «هآرتس» الذي يهاجمُ سياسةَ كلِّ الحكومات . وماذا سيكونُ موقفُ حماس إنْ أعلنَ العدوُّ عن إدانةِ القمعِ في غزة ، مثلما عارَضَ حصارَ السلطةِ لها واختارَ التخفيفَ طلباً لاسترضاءِ الناسِ وتحاشياً لردودِ أفعالِها . الذين خرجوا في غزة يتظاهرون ويهتفون «بِدْنَا نعيش» ليسوا مُترَفينَ يلعبون أو مشاغبينَ بلا آلامٍ وبلا مصاعبَ خانقة . فهؤلاء أصحابُ شكايةٍ ومظلومياتٍ عميقة . إنّ إنكارَ الواقعِ هو نصفُ الخيبةِ ، وتكونُ تكملتُها في المكابَرةِ والاستمرارِ في العنادِ ، في خلْطِ حسبةِ المقاومةِ بحسبةِ الحُكْمِ ، والمراوحةِ في مربعِ الأوهام !