أعادت القرارات المتتالية التي اتخذتها السلطات التركية أخيراً بتوقيف وترحيل عدد من العناصر الإخوانية المقيمة على أراضيها والمطلوبة من قبل السلطات المصرية، طرح التساؤل المتعلق بوجود مساعٍ تركية خجولة لاسترضاء القاهرة توطئة لاستعادة الدفء الذي فارق العلاقات المصرية التركية منذ منتصف عام 2013.
فانطلاقاً من براغماتيته المفرطة، جنح النظام التركي إلى تبني سياسات سرية مغايرة إلى حد التناقض، لخطابه السياسي العلني، وهو التوجه الذي لاحت ملامحه جلية في مواضع شتى، من أبرزها، العلاقة مع إسرائيل، التي دأب إردوغان على انتقاد سياساتها علانية، بينما لا يتوانى عن تعزيز أواصر التعاون الاقتصادي والتنسيق الاستخباراتي والأمني معها في الخفاء. ففي مطلع تشرين (نوفمبر) الماضي، كشف نادف أرجمان، رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، عن نجاح الجهاز في إحباط 480 عملية أمنية كانت تستهدف مواطني الدولة العبرية خلال العام الماضي، بفضل مساعدة الاستخبارات التركية التي قدمت معلومات حيوية وحساسة عن فلسطينيين خططوا للقيام بتلك العمليات، فيما استجابت السلطات التركية غير مرة لمطالب نظيرتها الإسرائيلية بتسليم مطلوبين فلسطينيين كانوا يعيشون على الأراضي التركية.
أما بخصوص العلاقات التركية – المصرية، والتي أفضت سياسات أردوغان العدوانية حيال القاهرة منذ عام 2013 إلى إصابتها بانتكاسة لافتة، بعدما قام بتوفير ملاذات آمنة لقيادات ومراجع فكرية لتنظيمات إرهابية مصرية، وتشجيعها على إقامة برلمان موازٍ ومنابر ومنصات إعلامية تبث سمومها في الجسد المصري المنهك، علاوة على السماح لقيادة اللجان النوعية المسلحة لجماعة «الإخوان المسلمين» ومؤسسي تنظيم «حسم» المتورط في تنفيذ عدد من العمليات الإرهابية بالتحرك بحرية في تركيا والمشاركة في دعم وقيادة التنظيمات الموجودة بالقاهرة، فضلاً عن رفض أنقرة المطالبات المصرية بتقديم المساعدة القضائية وتسليم قرابة 60 متهماً ومطلوباً مصرياً تؤويهم تركيا وتخطط لتجنيس بعضهم، بزعم الحاجة الملحة لأشخاص يجيدون التحدث باللغة العربية للعمل في عدد من القطاعات الحكومية التركية التي تشترط على من يتولونها بأن يكونوا حاملين للجنسية التركية.
غير أن النهج التركي حيال القاهرة بدأ ينحو نحواً مغايراً خلال الآونة الأخيرة، وبعدما كان ينظر إردوغان إلى العناصر الإخوانية والجهادية المصرية التي يؤويها كورقة ضغط على القاهرة وعواصم عربية أخرى، وكنصير أو ظهير له في مواجهة خصومه السياسيين بالداخل التركي، خصوصاً عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة التي تعرض لها في تموز (يوليو) 2016، بدأت استراتيجيته بهذا الخصوص تشهد تحولاً ملحوظاً، تحت وطأة الانتقادات الهائلة التي باتت تنهال عليه، سواء من جانب المعارضة السياسية والأجهزة الاستخباراتية التركية، أو من قبل دوائر إقليمية ودولية، ومن ثم بدأ تعاطيه مع تلك العناصر المتطرفة يقتصر على استخدامها ورقة مساومة مع القاهرة وعواصم خليجية وغربية، بعدما بدأ يستشعر أعباء وخطورة إيوائها، في وقت تحاصر أنقرة اتهامات بدعم الإرهاب وتسهيل عمل المتطرفين في سورية وبقاع أخرى في منطقة الشرق الأوسط، حيث تعد أنقرة المعبر الرئيس لدخول العناصر الأجنبية المنضوية تحت لواء التنظيمات الجهادية السورية منذ عام 2011، فيما كانت الحدود التركية السورية شبه مفتوحة لدخول تلك العناصر، كما تحتفظ السلطات التركية بسجلات مفصلة عن عناصر التنظيمات الجهادية التي سعت للهروب إلى تركيا بعد «اتفاق الرقة»، لم تتورع أنقرة عن استغلالها لابتزاز الدول الغربية والعربية أثناء التفاوض حول قضايا وملفات شتى.
بموازاة ذلك، بدأت أنقرة في اتخاذ إجراءات من شأنها أن تعطى إشارات إيجابية تعكس رغبة جادة في التقارب مع القاهرة. فعلاوة على استمرار المعاملات التجارية بين البلدين على رغم توتر علاقاتها، أظهرت أنقرة دعماً لمصر في حوادث إرهابية تعرضت لها القاهرة أخيراً، كالحادث الإرهابي الغاشم الذي استهدف مسجد الروضة في سيناء، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، والذي خلَّف أكبر عدد من الضحايا شهدته مصر بواقع 310 شهداء و130 جريحاً، حيث أظهرت الحكومة التركية مؤازرة لافتة للمصريين، إذ لم تكتف بإدانة الحادث في بيان ندد به خلاله أعلى هرم السلطة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء بن علي يلدريم، وإنما أعلنت أنقرة الحداد ليوم واحد ونكّست الأعلام التركية في داخل البلاد وعلى مستوى بعثاتها الديبلوماسية حول العالم، في تضامن لافت مع مصر، حكومة وشعباً.
وأثناء خطاب له أمام الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية الحاكم عام 2017، حذر أردوغان من مخطط لإرسال عناصر تنظيم «داعش» الإرهابي الذين غادروا مدينة الرقة السورية، إلى سيناء المصرية، وذلك بموجب اتفاق سري عقد في تشرين الأول (أكتوبر) 2017 بين التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة و«قوات سورية الديموقراطية» من جانب، وتنظيم «داعش» من جانب آخر بوساطة مسؤولين محليين، وينص على السماح لعناصر التنظيم الإرهابي وعائلاتهم بالخروج من الرقة عاصمة خلافتهم المزعومة عبر حافلات إلى مناطق أخرى، سواء داخل سورية أو خارجها، ثم التوجه نحو تركيا توطئة للعودة إلى بلادهم. واستناداً إلى معلومات حصلت عليها السلطات التركية خلال تحقيقها مع قيادات داعشية، أكد الرئيس التركي في خطابه التحذيري للمصريين، إسناد مهام إرهابية جديدة لعناصر «داعش» في سيناء. في غضون ذلك، ازدادت خلال السنوات القليلة المنقضية وتيرة التنسيق بين أجهزة أمنية واستخباراتية مصرية مع نظيرتها التركية، تجلت في تخلي أنقرة عن تعنتها السابق وعدم تعاونها المستفز، عبر الموافقة على تسليم عدد من الإرهابيين المطلوبين للقاهرة، والذين كان أحدثهم، الإخواني محمد عبد الحفيظ، الضالع في عملية اغتيال النائب العام السابق هشام بركات، والذي صدر بحقه حكم غيابي بالإعدام.
ويبدو أن الاستراتيجية المتعددة الأبعاد، التي تبنتها القاهرة بغية الضغط على تركيا وإجبارها على تغيير سياساتها، لاسيما تلك المتعلقة بتوفير الملاذات الآمنة للمصريين المتورطين في قضايا الإرهاب، قد بدأت تؤتي أكلها. فعلى الصعيد القانوني والقضائي، وانطلاقاً من عدم وجود اتفاق ثنائي لتسليم المطلوبين بين الجانبين المصري والتركي، عمدت القاهرة إلى مناشدة المجتمع الدولي ممثلاً في المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية ومنظمة البوليس الجنائي الدولي، لحمل أنقرة على تسليم المطلوبين المصريين لديها والتوقف عن إيوائهم ومؤازرتهم على الإضرار بالأمن المصري، خصوصاً بعد إدراج مصر وعدد من دول العالم جماعة «الإخوان المسلمين» ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية، ووجود أحكام قضائية مصرية باتة بإدانة أولئك المصريين الهاربين إلى تركيا جراء الضلوع في عمليات وأنشطة إرهابية، كما تم إدراج عدد من الذين تؤويهم تركيا على قائمة الإرهاب من قبل دول مثل مصر والسعودية والإمارات والبحرين. وفي السياق ذاته، أضاف الإنتربول المصري أسماء أكثر من 60 من قيادات جماعة «الإخوان» الإرهابية إلى قوائم نشراته الحمراء، التي يتم إرسالها بصفة دورية إلى الدول الأعضاء في منظمة الشرطة الجنائية الدولية (الانتربول الدولى) لملاحقة الهاربين من قيادات «الإخوان» والمطلوبين لدى جهات التحقيق المصرية.
وجيواستراتيجيا، حرصت مصر على تعميق التفاهمات الاقتصادية والأمنية مع عدد من دول إقليم شرق البحر المتوسط، ومنها قبرص واليونان وإسرائيل، لتعظيم الاستفادة من ثروات النفط والغاز بتلك المنطقة الحيوية، حتى وصل الأمر إلى إبرام اتفاقات لترسيم الحدود البحرية وتعيين المناطق الاقتصادية، فضلاً عن إجراء مناورات عسكرية مشتركة، وبلورة آلية مشتركة للتنسيق الأمني والعسكري لحماية مصالحها في الإقليم عام 2014، وصولاً إلى تأسيس مصر أخيراً لمنتدى غاز شرق المتوسط الذي ضم سبع دول لم تكن تركيا من بينها. الأمر الذي أضعف الموقف التفاوضي التركي، وفرغ أية تهديدات تركية باستخدام القوة العسكرية لإرباك مشاريع دول شرق المتوسط لاستغلال ثروات الإقليم من أي مضمون، خصوصاً بعدما أبدى كل من الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، دعمهم المطلق لتحركات دول منتدى غاز شرق المتوسط، وتناوبوا تحذير تركيا من أية أعمال استفزازية أو أنشطة عدوانية.
الحياة اللندنية