يوميًا تكشف تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية سيما ما يخص شدة وطبيعة العقوبات التي يفرضها ما بات يمكن تسميته بالغرب على روسيا، مدى تورط هذا الغرب بالنفاق السياسي وازدواجية المعايير إزاء الصراعات الدولية و الحروب الاقليمية، وقضايا الاحتلال الأخرى خاصة في فلسطين. ففي الوقت الذي تصعِّد فيه الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفائهما في أوروبا وغيرها من طبيعة العقوبات التي تفرضها على روسيا،
حيث لم تبُقِ شيئًا من المعاملات والمصالح الثنائية والمتبادلة خارج تلك العقوبات، والتي لم تقتصر على الشأنين الاقتصادي والسياسي، بل تعدتهما إلى قضايا الأدب والفنون و الرياضة، ومختلف مناحي الحياة الانسانية الأخرى التي تشى برغبة هذا الغرب على شطب الهوية الروسية كشعب، فهم جميعًا يبلعون ألسنتهم إزاء ما تمارسه اسرائيل من جرائم يومية وانتهاكات خطيرة . إن هذا السلوك الرافض للغزو الروسي لأوكرانيا، واعتباره احتلالًا عسكريًا و ارتكاب جرائم حرب، كان يمكن أن يكون عاديًا لو كان يصدر عن دول أو مجموعات دولية سبق وأن اتخذت ذات المواقف من قضايا حروب أخرى وجرائم حرب وصلت حد التطهير العرقي في فلسطين منذ نكبة عام 1948، حيث تم حينها اقتلاع أغلبية الشعب الفلسطيني من بيوتهم و تسليمها لليهود القادمين من دول أوروبا وغيرها في إطار ما عرف بالهجرة اليهودية الصهيونية لإنشاء "دولة إسرائيل"، التي تسابق العالم ليس فقط للاعتراف بها، دون اكتراث بالجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية خلال حرب النكبة، أو تجاهل مسؤولياتها لتنفيذ الجزء الثاني من قرار التقسيم المتعلق بإقامة دولة فلسطين ، حيث سرعان ما تم ترسيم حدود اسرائيل في اتفاقية رودس مع كل من مصر و الأردن وسوريا ولبنان بما تجاوز حدود قرار التقسيم ،
باعتبارها خطوط هدنة دون أي اكتراث بالشعب الفلسطيني الذي تم اقتلاعه من أرضه أو بالخطوط التي أشار اليها قرار التقسيم، وقبل ذلك دون اكتراث لحضور الفلسطينيين أنفسهم وإنشاء دولتهم التي نص عليها القرار ذاته، الأمر الذي شكل بداية محاولات طمس الهوية والوجود الفلسطينيين بإرادة دولية لم تكترث منذ بداية المأساة الفلسطينية لقواعد الشرعية والقانون الدولي، و لا للقرار رقم 181 لعام 1947 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. وبدلاً من أن تُواجَه اسرائيل بأي عقوبات على ذلك، فقد تم تقديم المساعدات الاقتصادية والسياسية والعسكرية بما في ذلك تمكينها من انشاء مفاعلًا نوويًا وانتاج قنبلة نووية.
وباحتلال اسرائيل لباقي الأرض الفلسطينية عام 1967 "قطاع غزة الذي كان تحت الادارة المصرية، والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية التي تم ضمها للأردن"، استكملت اسرائيل احتلال كامل فلسطين الانتدابية، دون أن يجرى مساءلتها على رفض الانسحاب الفوري وفقًا للقرار 242، وعدم التزامها بأي من قرارات الأمم المتحدة أو اتفاقيات جنيف بما فيها اتفاقية جنيف الرابعة، بل ولم تكترث لجميع القرارات المتعلقة بالقدس و الاستيطان وسياسة القتل و هدم المنازل وغيرها من جرائم الحرب، كما لم تكترث للتقارير الصادرة عن المنظمات الدولية وآخرها تقرير أمنتي الذي يصنف جرائمها ضد الشعب الفلسطيني كجرائم حرب، بل واعتبرها نظام دولة يمارس سياسة الابارتايد. ذلك كله دون أن يتحرك المجتمع الدولي لمعاقبة اسرائيل أو مساءلتها، والأخطر من ذلك فإن سياسة المجتمع الدولي ازاء ادارة المفاوضات الاسرائيلية الفلسطينية وفق قاعدة "جلب الذئب والحمل" التي اعتمدها المجتمع الدولي، بالإضافة للاستمرار في طلب تقديم التنازلات من الطرف الأضعف أي الفلسطينيين،
حتى بات التفاوض دون أي مرجعية سوى ما تقبل به أو ترفضه اسرائيل الاحتلالية. هكذا استمرت عملية التفاوض لعقدين و أكثر، حتى باتت حكومة الاجماع الاستيطاني ترفض ليس فقط التسليم بالحقوق الفلسطينية كما عرفتها الشرعية الدولية، بل وترفض مجرد التفاوض ، بل ويرفض رئيسها المستوطن أيضًا مجرد ذكر فلسطين والفلسطينيين، وعلينا نحن الفلسطينيون وفق سياسات الغرب أن نتفهم حالة حكومة اسرائيل وخطر حلها، بأن نقبل أو نصمت على ممارسات التهويد والاستيطان و القتل والاعتقالات اليومية هذا بالإضافة لحصار قطاع غزة المستمر منذ حوالي عقدين.
بينما و خلال مدة لم تتجاوز الشهر، فان دول الغرب بزعامة واشنطن ولندن لم تبقي ثغرة أو نافذة إلا وأغلقتها عقابًا لموسكو على اجتياح أوكرانيا و احتلالها بالقوة المسلحة، و كأن القانون الدولي يجري التعامل معه بنسختين، الأولى هو ما تمارسه دول الغرب في الحرب الروسية الأوكرانية ، وأما النسخة الثانية فهي مفصلة لشعب فلسطين ومتطلبات تكريس إسرائيل كدولة فوق القانون.
انفضاح أمر هذه الازدواجية أمام الرأي العام الدولي تشكل فرصة ربما غير مسبوقة لنا نحن الفلسطينيين من أجل القيام بأوسع حملة كونية لمطالبة المجتمع الدولي أولًا للتوقف عن هذه المعايير المزدوجة، و لتحمل كامل مسؤولياته بمساءلة اسرائيل على جرائمها والانسحاب الفوري من الأرض الفلسطينية المحتلة.
من الواضح أن حكومات الغرب بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، واللتان لا تخوضان معركتهما ضد روسيا الاتحادية انتصارًا لحقوق الشعب الأوكراني، بقدر ما هي لتحطيم مكانة روسيا التي أوقعت نفسها في الفخ الأمريكي؛ لن تنصاعا بسهولة لمثل هذه الحملة،
كما أن الطريق للنجاح في هذه المعركة ليس معبدًا أو مفروشًا بالورود ولكنه أيضًا ليس مستحيلًا اذا ما توفرت عدد من الشروط، يأتي في مقدمتها توحيد الحالة الوطنية الفلسطينية بإنهاء الانقسام، والاتفاق على خطاب سياسي موحد على الصعيدين الرسمي و الشعبي ينطلق من التمسك الحازم بمبادئ القانون الدولي وعدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة العسكرية، وعدم اللجوء لمثل هذه القوة لحل النزاعات بين الدول واحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها، والأمر الثالث يتمثل في العمل بكل السبل لاستعادة الثقة بين الشعب وقيادته، وما يتطلبه ذلك من مشاركة كافة القوى في صنع القرار السياسي للمنظمة، وتحمل مسؤولية مشتركة للتخفيف من أعباء حياة الناس، وتعزيز قدرتها على الصمود عبر حكومة وحدة وطنية، و الاتفاق على موعد اجراء الانتخابات العامة بمستوياتها الثلاث،
وترميم العلاقة مع حركات التضامن الأممي والقوى و الاحزاب المساندة لحقوق شعبنا وذلك في اطار استراتيجية عمل مشتركة جوهرها كشف قناع النفاق الدولي وازدواجية المعايير و المطالبة بفرض ما يجب من عقوبات لإلزام حكومة الاحتلال الاسرائيلي بالانصياع لإرادة شعوب العالم و أسس القانون الدولي، وفي مقدمتها الانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، و الاقرار بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني سيما حقه في العودة وتقرير المصير.
إن الحياد في الأزمة الأوكرانية الروسية يجب ألا يعني الصمت و الاختباء وراء أصابعنا، و ترك مجرمي الحرب في اسرائيل ليقدموا أنفسهم كوسطاء من أجل التوصل لحل هذه الأزمة. فالشعوب الأوروبية، والتي تجعلها هذه الحرب الضحية المباشرة لنتائجها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، تدرك تمامًا حالة النفاق التي تمارسها حكوماتها، كما باتت وبمرور أكثر من شهر على اندلاعها، ليس فقط ضحية الآثار الاقتصادية المباشرة على حياتها، بل و ترى بأم العين التمييز غير الانساني الذي تمارسه دول جوار أوكرانيا بين اللاجئين من أوكرانيا" الأوكراني وغير الأوكراني" تمامًا كما تمارس اسرائيل ذلك التمييز بين هؤلاء اللاجئين أي بين اليهود منهم أو غير اليهود.
إن الرأي العام و الذي ستزداد نقمته على هذه الحرب وأطرافها المباشرين وغير المباشرين تدريجيًا، وبالقدر الذي سيدفع فيه كلفة هذه الحرب والعقوبات المصاحبة لها، يشكل حليفًا موضوعيًا لمراكمة التحولات الاستراتيجية في الرأي العام الدولي وما يوفره من نوافذ تأثير واسعة، وما تستدعيه من آليات عمل غير تقليدية