الكوفية:الأوضاع بالنسبة للفلسطينيين تزداد تعقيداً، وكلما توغل الزمن أكثر استفحلت الأزمة، وهي أزمة تفرخ يومياً أزمات فرعية لا نهاية لها تجعل من الصعب السيطرة عليها بل وتضعها على حافة الانفجار أو الاشتعال كما وصفها المبعوث الأميركي هادي عمرو في زيارته الأخيرة وهو يصف حالة الضفة الغربية وحالة السلطة التي كما قال، إنه لم يرها سابقا على هذا الحال من السوء.
الحل الذي تحدث عنه بيان الخارجية الأميركية بعد سلسلة اللقاءات التي عقدها موفدها مع ممثلي المجتمع المدني والقطاع الخاص يحمل مدلولات خطيرة لأنه يرمز لغياب الاهتمام بالمشروع السياسي وتعويض ذلك بمشروع يتعلق بالقطاع الخاص والمجتمع المدني، اذ ناقش في زيارته قضايا حقوق الإنسان وسيادة القانون وعلى أهميتها لكنها ليست بديلاً عن المشروع الرئيس أو المأزق الرئيس، كما أنه ناقش قضايا التنمية الاقتصادية "مفهوم نتنياهو بينيت للسلام" وكذلك قضايا الطاقة والمياه والإغاثة الإنسانية في غزة....!
بالنسبة للولايات المتحدة التي رعت توقيع اتفاق أوسلو واحتكرت مساره ويعود لها الفضل الأبرز في قتله وحرق جثته تشكل تلك القضايا أقصى ما تريده، تهدئة أو تهدئات تضمن تخفيف هذا الصراع الذي شهدت نموذجه قبل شهرين وكاد ينتقل للداخل الأميركي وللحزب الديمقراطي إذ إن حياة عادية تحت الاحتلال وبمطالب إنسانية تخفض التوتر وهو هدف زيارة المبعوث الأميركي مع اختفاء الملف السياسي وفقاً للرؤية الإسرائيلية.
هذا أقصى ما يمكن أن تخرج به الإدارة الأميركية وهو أخطر ما يمكن أن تقدمه للفلسطينيين وهو تسكين الحياة تحت الاحتلال، وهو ما تسمح به طبيعة العلاقة الأميركية الإسرائيلية مع الحكومة الجديدة. فحكومة نفتالي بينيت هي هدية إسرائيل لبايدن، بل إن إدارة بايدن بذلت ما يكفي من الجهد لمنع نتنياهو من العودة للحكومة وآخرها تخريب زيارته لدولة الإمارات عشية الانتخابات، ولأن إدارة بايدن تدرك هشاشة الحكومة "المدللة" فإنها لن تقدم أي مشروع سياسي يضعف أو يحرج هذه الحكومة بل ويمكن أن تذهب معها في رؤيتها للملف الفلسطيني والذي يقوم على التحسينات الاقتصادية في أفضل الأحوال وهذا ما جاء من أجله هادي عمرو وانحصرت كل نقاشاته في تلك الزاوية.
الوضع الفلسطيني هش ومتآكل الى الدرجة التي أصبحت تلك القضايا الحياتية سلم نجاة للحفاظ على هذا الوضع السيئ، وذلك نتاج لمسار طويل لابد وأن يصطدم بالحائط عندما تجاهل الفلسطينيون انحدار المسار السياسي وتعمق الأزمة دون الوقوف أمام الاستعصاءات السابقة والتفكير بكيفية الخروج أو حتى ما الذي يحدث والى أين تتجه الأوضاع التي كانت أمام رؤيتنا جميعاً أنها تتجه نحو الانهيار.
ولأسباب خارجية وداخلية كان لابد أن يكون تصريح "الغابة الجافة" هو الوصف الحقيقي للراهن، وان كانت إسرائيل والولايات المتحدة قد تسببتا بكل هذا الجفاف سواء لجهة سيطرة يمين أقسم منذ اليوم الأول لتوقيع الاتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين على نسفه أو لجهة الدور الأميركي الذي لم يقل استهتاراً وتواطؤا مع حكومات اليمين المتعاقبة ولكن أيضاً لم يكن الفلسطينيون أقل تواضعاً في التواطؤ على مشروعهم الوطني سواء لجهة انقساماتهم وصراعاتهم الداخلية التي أنهكتهم أو لجهة نموذج الحكم البائس الذي قدموه، والذي أضر بشكل مزدوج وخطير بالداخل وإيمان الفلسطينيين بجدارة كفاحهم وإقامة دولة هذا هو نموذجها أو لجهة الصورة في الخارج وإيمان العالم بجدارة قيام دولة فلسطينية هذا نموذجها في الانتخابات والقانون والأمن والحريات.
إذا تعاون الداخل والخارج على تجفيف الغابة وكان التاريخ ومجرياته يستولد واقعا بقوة الوقائع وبقوة الدفع المنظم إسرائيليا والكبح العشوائي فلسطينيا لتقف الحالة عند تلك المحطة المهجورة والبائسة والتي توشك على الانهيار أو الاحتراق كما وصفها المبعوث الأميركي الذي لم يبتعد كثيراً عن روح صفقة القرن في رؤيته العامة، حيث يسعى لتأبيد حالة لم تعد طبيعية في حياة الفلسطينيين باعتبارهم يقبعون في منتصف أزمة أو بالأصح وسط الحريق بالمعنى الوطني، فلا هم قادرون على التقدم ولا التراجع ولا الانتقال نحو اليمين أو الشمال ولا حتى الوقوف مكانهم باعتباره أصعب الخيارات أو انتظار الموت الوطني بنواح خافت وهذا ما تحاول الإدارة الأميركية فعله وكأنها تقول، "ليمت مشروع الفلسطيني، المهم أن تخف حدة الصداع".
ماذا لو احترقت الغابة؟ بكل الظروف، نحن وسط حريق وطني كبير لا يمكن التقليل من جسامته، وإذا كانت الثورة والسلطة قد تأسستا لتحقيق الاستقلال فهل لنا أن نقول إن الفلسطيني استعجل في استبدال دوره الوظيفي بإنشاء السلطة؟ أو أن السلطة قطعت الطريق على مشروع الثورة قبل أن ينضج. ماذا لو احترقت الغابة واحترقت معها أطراف الأصابع والأقدام الإسرائيلية كما يحذر الموفد الأميركي؟ أليس أفضل من أن يحترق الفلسطيني وحده؟
ان في الحفاظ على "الستاتيكو" القائم كما تريد إسرائيل وكما تريد الولايات المتحدة معادلة غير سوية بل وكارثية بالنسبة للفلسطينيين، وبالتالي أصبح البحث عن آليات الخروج من تلك المعادلة مطلباً ضرورياً بعد اتضاح نوايا الإدارة الأميركية وبعد غياب نتنياهو عن الساحة حيث كنا نعتقد أن أزمة الفلسطينيين الوطنية تكمن في وجوده على رأس الحكومة، والآن، يتضح أن المسألة أبعد فما العمل؟
ان من يراقب الحالة الفلسطينية يدرك تماماً أنها في أسوأ مراحلها. فغزة التي انفصلت عن الضفة الغربية تعيش البؤس الحقيقي دون أفق أو مستقبل سوى تثبيت وإدامة انفصالها، والضفة ليست أفضل حالاً من حيث تمدد المشروع الإسرائيلي وبين هذه وتلك يتآكل المشروع الوطني بلا توقف فما العمل؟ هناك الكثير مما يمكن عمله ولكن هناك خشية بأن الواقع تمكن من كي وعي الفلسطينيين ووضع قيداً على التفكير بمستوى الخيارات لتهبط الى حيث يريد الأميركي وتلك تضاف الى سلسلة الإخفاقات التي سبقتها او مهدت لكل هذا الخراب، ولم يبق غير إعادة الأنابيب الصناعية كما يقترح الموفد الأميركي لإدامة الموت الإكلينيكي الوطني ...!!!!!!
الأيام