بدا في الأيام القليلة السابقة، أن الوقائع الموضوعية الكثيرة، التي أحاطت برئيس السلطة محمود عباس وأقنعته بلا جدوى اشتراطاته في المصالحة، وبعقم تصرفاته الإقصائية لغزة، ومجافاته لمصالح الناس فيها؛ قد أوصلته الى اجتراح الكلام اللين بخصوص المصالحة، حسب تسريب آخير لما يجري الكواليس. فلا تسليم من "الباب الى المحراب" بموجب الصيغة التي تناولتها خطب الجمعة في "المقاطعة" لا سيما عندما يكون السلاح الذي تقاوم غزة به، ضمن الصيغة، فضلاً عن كون التبجح بـ "عقوبات" لغزة، بات أمراً معيباً في ناظر الشعب الفلسطيني، ينزع شرعية الطرف الذي "يعاقب" ويزيد الطرف المُعاقب، مظلومية يخشى الإحتلال عواقبها!
هذا الفشل البليغ، أوصل عباس الى منصة الحديث، بمنطق آخر، حيال المصالحة، وجعل خطبة الجمعة في "المقاطعة" تتوجه الى الطرف الإسرائيلي وتهاجم وزيرة الثقافة العنصرية. لكن المصالحة التي يتحدث عنها الطرفان العباسي والحمساوي، لها سياقاتها الكاملة، التي تجعل العودة الى الشعب جوهر موضوعها، وجوهر التصالح، وتجعل العدالة التي هي حق الناس في الضفة وغزة؛ مقصداً رئيساً. ولا عدالة بغير إنفاذ القانون والتزام الوثيقة الدستورية وطي مرحلة التفرد، وإخضاع السياسات الداخلية والخارجية، للذراع الأمنية العباسية.
من الآن نحدد موقفنا، فلا مصالحة بغير التمكين للإرادة الشعبية، ولا مصالحة بالمحاصصة، ولا هيمنة دون تفويض شعبي، ولن يُقبل من عباس إدخال ذراعه الأمنية في إدارة حياة المجتمع، وفي تحديد وُجهة الجهاز الحكومي وقراراته، ولن يُقبل من حماس، جعل سلاح المقاومة، ضاغطاً على حياة المجتمع وجهازه الحكومي. ذلك لأن المصالحة التي يقبلها الشعب، هي التي تنشأ في كنفها استراتيجية عمل وطني واحدة، واقعية دون تفريط في ثوابت القضية، وتحررية ومقاومة بالوسائل المتاحة، دون أي تجاهل للسياسة وجعلها من اختصاص منابر الخطابة البليغة والعاطفية!
بعد أكثر من عشر سنوات من الإنقسام والتخبط والتصادم بين المنهجيات، بات على الطرفين أن يتأملا النتائج الكارثية ،وأن يستفيدا ويتعلما الدروس كلها. فإن لم يدفعهما العقل الى الذهاب في اتجاه إصلاح ديموقراطي حقيقي، فعلى كل منهما أن يقرأ حُكم لشعب على تجربته، وأن يصحح مساره، لأن المزيد من الكوارث، سيفاقم مأزق الطرفين. فلا تكرار الكلام عن الشرعية وعن مرجعية منظمة التحرير يشفع لعباس، ولا تكرار الكلام عن بسالة المقاومة، يشفع لحماس عند الناس، كلما كان الأمر يتعلق بمنهجية الحكم!
السياسات المعتمدة حتى الآن، تخالف توجهات المنظمة حتي بعد التقييف العباسي لمؤساتها، وتخالف على صعيد السلطة، وثيقتها الدستورية والقوانين التي ينبغي أن تكون مرعية. وبالنسبة لحماس، فإن حكمها في غزة، يخالف الأسس الدستورية التي انتخبت على أساسها قبل إثنتي عشرة سنة. ونحن هنا، نقول إنها إثنتي عشرة سنة وليس إثنى عشر عاماً، إذ عندما سؤل فقيه نحوي عن الفرق بين السنة والعام، قال إن السنة هي تلك الأشهر الإثنا عشر التي تقع فيها الضائقة، فيضطر الناس فيها الى سَن أمعائهم لمواجة الضائقة والشهور العجاف، بالنذر اليسير من الرزق والفلاح الاقتصادي والاجتماعي، أما العام، فهو ذو الأشهر التي يعم فيها الخير، وينبت الكلأ وتخضر المراعي ويدُر الضرْع . فالأية القرآنية في سورة العنكبوت تقول "ولقد أرسلنا نوحاً الى قومه، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً". كانت التسعمئة وخمسون سنة كئيبة، وقد عم الخير والفلاح في الخمسين الباقية. أما الإنقلاب والإنقسام والإقصاء والتفرد والفساد، فهما العنكبوت نفسه!
لم يكن ثمة خير طوال أكثر من إثنتي عشرة سنة، وكان الخراب والجفاء والشر على كل صعيد، وأصبح الناس يتطلعون الى أعوام من الخير، تتحقق فيها الرجاءات!